الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَسورة الأنعام الآية رقم 31
أي: قد خاب وخسر, وحرم الخير كله, من كذب بلقاء الله, فأوجب له هذا التكذيب, الاجتراء على المحرمات, واقتراف الموبقات.
" حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ " وهم على أقبح حال وأسوأه, فأظهروا غاية الندم.
" قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا " ولكن هذا تحسر ذهب وقته.
" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ " .
فإن وزرهم وزر, يثقلهم, ولا يقدرون على التخلص منه, ولهذا خلدوا في النار, واستحقوا التأبيد في غضب الجبار.
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَسورة الأنعام الآية رقم 32
أما حقيقة الدنيا: فإنها لعب ولهو لعب في الأبدان ولهو في القلوب فالقلوب لها والهة والنفوس لها عاشقة والهموم فيها متعلقة والاشتغال بها كلعب الصبيان.
وأما الآخرة, فإنها " خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ " في ذاتها وصفاتها, وبقائها ودوامها.
وفيها ما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, من نعيم القلوب والأرواح, وكثرة السرور والأفراح.
ولكنها ليست لكل أحد, وإنما هي للمتقين, الذين يفعلون أوامر الله, ويتركون نواهيه وزواجره.
" أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أي: أفلا يكون لكم عقول, بها تدركون, أي الدارين أحق بالإيثار.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَسورة الأنعام الآية رقم 33
أي: قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك, يحزنك ويسوءك.
ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر, إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية.
فلا تظن أن قولهم, صادر عن اشتباه في أمرك, وشك فيك.
" فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ " لأنهم يعرفون صدقك, ومدخلك ومخرجك, وجميع أحوالك, حتى إنهم كانوا يسمونه - قبل بعثته - الأمين.
" وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ " أي: فإن تكذيبهم لآيات الله, التي جعلها الله على يديك.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَسورة الأنعام الآية رقم 34
" وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا " .
فاصبر كما صبروا, تظفر كما ظفروا.
" وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ " ما به يثبت فؤادك, ويطمئن به قلبك.
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَسورة الأنعام الآية رقم 35
" وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ " أي: شق عليك, من حرصك عليهم, ومحبتك لإيمانهم, فابذل وسعك في ذلك, فليس في مقدورك, أن تهدي من لم يرد الله هدايته.
" فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ " .
أي: فافعل ذلك, فإنه لا يفيدهم شيئا.
وهذا قطع لطمعه في هداية أشباه هؤلاء المعاندين.
" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى " ولكن حكمته تعالى, اقتضت أنهم يبقون على الضلال.
" فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ " الذين لا يعرفون حقائق الأمور, ولا ينزلونها على منازلها.
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَسورة الأنعام الآية رقم 36
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ " لدعوتك, ويلبي رسالتك, وينقاد لأمرك ونهيك " الَّذِينَ يَسْمَعُونَ " بقلوبهم, ما ينفعهم وهم أولو الألباب والأسماع.
والمراد بالسماع هنا: سماع القلب والاستجابة, وإلا فمجرد سماع الأذن, يشترك فيه البر والفاجر.
فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى, باستماع آياته, فلم يبق لهم عذر, في عدم القبول.
" وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ " يحتمل أن المعنى, مقابل للمعنى المذكور.
أي: إنما يستجيب لك, أحياء القلوب وأما أموات القلوب, الذين لا يشعرون بسعادتهم, ولا يحسون بما ينجيهم, فإنهم لا يستجيبون ذلك, ولا ينقادون, وموعدهم يوم القيامة, يبعثهم الله, ثم إليه يرجعون.
ويحتمل أن المراد بالآية, على ظاهرها, وأن الله تعالى يقرر المعاد, وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون.
ويكون هذا, متضمنا للترغيب في الاستجابة, لله ورسوله, والترهيب من عدم ذلك.
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَسورة الأنعام الآية رقم 37
" وَقَالُوا " أي: المكذبون بالرسول, تعنتا وعنادا: " لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " .
يعنون بذلك, آيات الاقتراح, التي يقترحونها.
بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة.
كقولهم " وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " الآيات.
" قُلْ " مجيبا لقولهم: " إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً " فليس في قدرته قصور عن ذلك.
كيف, وجميع الأشياء منقادة لعزته, مذعنة لسلطانه؟! " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فهم - لجهلهم وعدم علمهم - يطلبون ما هو شر لهم من الآيات, التي لو جاءتهم, فلم يؤمنوا بها - لعوجلوا بالعقاب, كما هي سنة الله, التي لا تبديل لها.
ومع هذا, فإن كان قصدهم, الآيات التي تبين لهم الحق, وتوضح السبيل.
فقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم, بكل آية قاطعة, وحجة ساطعة, دالة على ما جاء به من الحق, بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل الدين, أن يجد فيما جاء به, عدة أدلة عقلية ونقلية, بحيث لا تبق في القلوب, أدنى شك وارتياب.
فتبارك الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق, وأيده بالآيات البينات ليهك من هلك عن بينة, ويحيا من حي عن بينة, وإن الله لسميع عليم.
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَسورة الأنعام الآية رقم 38
أي: جميع الحيوانات, الأرضية والهوائية, من البهائم والوحوش, والطيور, كلها " أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ " خلقناها كما خلقناكم, ورزقناها كما رزقناكم, ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا, كما كانت نافذة فيكم.
" مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ " أي: ما أهملنا ولا أغفلنا, في اللوح المحفوظ, شيئا من الأشياء.
بل جميع الأشياء, صغيرها, وكبيرها, مثبتة في اللوح المحفوظ, على ما هي عليه.
فتقع جميع الحوادث, طبق ما جرى به القلم.
وفي هذه الآية, دليل على أن الكتاب الأول, قد حوى جميع الكائنات.
وهذا أحد مراتب القضاء والقدر, فإنها أربع مراتب.
علم الله الشامل, لجميع الأشياء, وكتابه المحيط بجميع الموجودات, ومشيئته وقدرته العامة النافذة في كل شيء, وخلقه لجميع المخلوقات, حتى أفعال العباد.
ويحتمل أن المراد بالكتاب, هذا القرآن, أن المعنى كالمعنى في قوله تعالى " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ " .
وقوله " ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ " أي: جميع الأمم تجمع وتحشر إلى الله في موقف القيامة, في ذلك الموقف العظيم الهائل.
فيجازيهم بعدله وإحسانه ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون, أهل الماء وأهل الأرض.
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة الأنعام الآية رقم 39
هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله, المكذبين لرسله, أنهم قد سدرا على أنفسهم باب الهدى, وفتحوا باب الردى.
وأنهم " صُمٌّ " عن سماع الحق " وَبُكْمٌ " عن النطق به, فلا ينطقون إلا بالباطل.
" فِي الظُّلُمَاتِ " أي: منغمسون في ظلمات الجهل, والكفر, والظلم, والعناد, والمعاصي.
وهذا من إضلال الله إياهم, فإنه " مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " لأنه المنفرد بالهداية والإضلال, بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته.
قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة الأنعام الآية رقم 40
يقول تعالى لرسوله: " قُلْ " للمشركين بالله, العادلين به غيره: " أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .
أي إذا حصلت هذه المشقات, وهذه الكروب, التي يضطر إلى دفعها, هل تدعون آلهتكم وأصنامكم, أم تدعون ربكم الملك الحق المبين.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَسورة الأنعام الآية رقم 41
" بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ " فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد, تنسونهم, لعلمكم أنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا, ولا موتا, ولا حياة, ولا نشورا.
وتخلصون لله الدعاء, لعلمكم أنه هو الضار النافع, المجيب لدعوة المضطر.
فما بالكم, في الرخاء, تشركون به, وتجعلون له شركاء؟.
هل دلكم على ذلك, عقل أو نقل, أم عندكم من سلطان بهذا.
أم تفترون عل الله الكذب؟
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَسورة الأنعام الآية رقم 42
يقول تعالى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ " من الأمم السالفين, والقرون المتقدمين, فكذبوا رسلنا, وجحدوا بآياتنا.
" فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ " أي: بالفقر والمرض والآفات, والمصائب, رحمة منا بهم.
" لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ " إلينا, ويلجأون عند الشدة إلينا.
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة الأنعام الآية رقم 43
" فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ " .
أي: استحجرت فلا تلين للحق.
" وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فظنوا أن ما هم عليه, دين الحق فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان, ولعب بعقولهم الشيطان.
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَسورة الأنعام الآية رقم 44
" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ " من الدنيا ولذاتها وغفلاتها.
" حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ " .
أي: آيسون من كل خير, وهذا أشد ما يكون من العذاب, أن يؤخذوا على غرة, وغفلة وطمأنينة, ليكون أشد لعقوبتهم, وأعظم لمصيبتهم.
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الأنعام الآية رقم 45
" فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا " أي اصطلموا بالعذاب, وتقطعت بهم الأسباب.
" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " على ما قضاه وقدره, من هلاك المكذبين.
فإن بذلك, نتبين آياته, وإكرامه لأوليائه, وإهانته لأعدائه, وصدق ما جاءت به المرسلون.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَسورة الأنعام الآية رقم 46
يخبر تعالى, أنه كما هو المتفرد بخلق الأشياء وتدبيرها, فإنه المنفرد بالوحدانية والإلهية فقال: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ " فبقيتم بلا سمع ولا بصر ولا عقل " مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ " .
فإذا لم يكن غير الله, يأتي بذلك, فلم عبدتم معه من لا قدرة له على شيء إلا إذا شاءه الله.
وهذا من أدلة التوحيد وبطلان الشرك, ولهذا قال: " انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ " .
أي: ننوعها, ونأتي بها في كل فن, ولتنير الحق, وتستبين سبيل المجرمين.
" ثُمَّ هُمْ " مع هذا البيان التام " يَصْدِفُونَ " عن آيات الله, ويعرضون عنها.
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَسورة الأنعام الآية رقم 47
" قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ " أي: أخبروني " إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً " أي: مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات, تعلمون بها وقوعه.
" هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ " الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم, بظلمهم وعنادهم.
فاحذروا أن تقيموا على الظلم, فإنه الهلاك الأبدي, والشقاء السرمدي
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة الأنعام الآية رقم 48
يذكر تعالى, زبدة ما أرسل به المرسلين, أنه البشارة والنذارة, وذلك مستلزم لبيان المبشر والمبشر به والأعمال التي إذا عملها العبد, حصلت له البشارة.
والمنذر والمنذر به, والأعمال التي من عملها, حقت عليه النذارة.
ولكن الناس انقسموا - بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها - إلى قسمين.
" فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ " أي: آمن بالله وملائكته, وكتبه, ورسله واليوم الآخر, وأصلح إيمانه وأعماله ونيته " فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ " فيما يستقبل " وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " على ما مضى.
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَسورة الأنعام الآية رقم 49
" وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ " أي: ينالهم, ويذوقونه " بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ " .
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَسورة الأنعام الآية رقم 50
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المقترحين عليه الآيات أو القائلين له: إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله.
" وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ " أي: مفاتيح رزقه ورحمته.
" وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " وإنما ذلك كله عند الله.
فهو الذي " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ " وهو - وحده - عالم الغيب والشهادة.
" فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ " .
" وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ " فأكون نافذ التصرف قويا, فلست أدعي فوق منزلتي, التي أنزلني الله بها.
" إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ " أي: هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه, لا أتبع إلا ما يوحى إلي, فأعمل به في نفسي, وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك.
فإذا عرفت منزلتي, فلأي شيء يبحث الباحث معي, أو يطلب مني أمرا لست أدعيه.
وهل يلزم الإنسان, بغير ما هو بصدده؟.
ولأي شيء - إذا دعوتكم, بما يوحى إلي - تلزمونني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي.
وهل هذا, إلا ظلم منكم, وعناد, وتمرد؟ قل - لهم في بيان الفرق, بين من قبل دعوتي, وانقاد لما أوحي إلي وبين من لم يكن كذلك " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ " فتنزلون الأشياء منازلها, وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَسورة الأنعام الآية رقم 51
هذا القرآن, نذارة للخلق كلهم, ولكن إنما ينتفع به " الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ " .
فهم متيقنون للانتقال, من هذه الدار, إلى دار القرار, فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدعون ما يضرهم.
" لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ " أي: من دون الله " وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ " أي: لا من يتولى أمرهم فيحصل لهم المطلوب, ويدفع عنهم المحذور, ولا من يشفع لهم, لأن الخلق كلهم, ليس لهم من الأمر شيء.
" لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " الله بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فإن الإنذار موجب لذلك, وسبب من أسبابه.
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَسورة الأنعام الآية رقم 52
" وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ " .
أي: لا تطرد عنك, وعن مجالستك, أهل العبادة والإخلاص, رغبة في مجالسة غيرهم من الملازمين لدعاء ربهم, دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها, ودعاء المسألة, في أول النهار وآخره, وهم قاصدون بذلك, وجه الله, ليس لهم من الأغراض, سوى ذلك الفرض الجليل.
فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم, بل مستحقون لموالاتك إياهم ومحبتهم, وإدنائهم, وتقريبهم, لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء, والأعزاء - في الحقيقة - وإن كانوا - عند الناس - أذلاء.
" مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ " , أي: كل له حسابه, وله عمله الحسن, وعمله القبيح.
" فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ " وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر, أشد امتثال.
فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين, صبر نفسه معهم, وأحسن معاملتهم, وألان لهم جانبه, وحسن خلقه, وقربهم منه, بل كانوا هم, أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم.
وكان سبب نزول هذه الآيات, أن أناسا من قريش, أو من أجلاف العرب, قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك, فاطرد فلانا وفلانا, أناسا من فقراء الصحابة, فإنا نستحي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء.
فحمله حبه لإسلامهم, واتباعم له, فحدثته نفسه بذلك.
فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها.
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَسورة الأنعام الآية رقم 53
" وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا " .
أي: هذا, من ابتلاء الله لعباده, حيث جعل بعضهم غنيا; وبعضهم فقيرا وبعضهم شريفا وبعضهم وضيعا.
فإذا من الله بالإيمان على الفقير, أو الوضيع.
كان محل محنة للغني والشريف.
فإن كان قصده الحق واتباعه, آمن, وأسلم, ولم يمنعه من ذلك.
مشاركه الذي يراه دونه, بالغنى, أو الشرف.
وإن لم يكن صادقا في طلب الحق, كانت هذه, عقبة ترده عن اتباع الحق.
وقالوا - محتقرين لمن يرونهم دونهم-: " أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا " .
فمنعهم هذا, من اتباع الحق, لعدم زكائهم.
قال الله - مجيبا لكلامهم, المتضمن, الاعتراض على الله في هداية هؤلاء, وعدم هداية الله إياهم.
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ " الذين يعرفون النعمة, ويقرون بها, ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح, فيضع فضله ومنته عليهم, دون من ليس بشاكر.
فإن الله تعالى حكيم, لا يضع فضله, عند من ليس له أهل.
وهؤلاء, المعترضون, بهذا الوصف.
بخلاف من مَنَّ الله عليهم, بالإيمان, من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون.
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة الأنعام الآية رقم 54
ولما نهى الله رسوله, عن طرد المؤمنين القانتين, أمره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام, والتبجيل والاحترام, فقال: " وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " .
أي: وإذا جاءك المؤمنون, فحيهم, ورحب بهم ولقهم منك تحية وسلاما, وبشرهم بما ينشظ عزائمهم وهممهم, من رحمة الله, وسعة جوده وإحسانه, وحثهم على كل سبب وطريق, يوصل لذلك.
ورهبهم من الإقامة على الذنوب, وأمرهم بالتوبة من المعاصي, لينالوا مغفرة ربهم وجوده.
ولهذا قال: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ " .
أي: فلا بد مع ترك الذنوب, والإقلاع, والندم عليها, من إصلاح العمل, وأداء ما أوجب الله, وإصلاح - ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة.
فإذا وجد ذلك كله " فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي: صب عليهم من مغفرته ورحمته, بحسب ما قاموا به, بما أمرهم به.
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَسورة الأنعام الآية رقم 55
" وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ " أي: نوضحها ونبينها, ونميز بين طريق الهدى من الضلال والغي والرشاد, ليهتدي بذلك المهتدون, ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه.
" وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " الموصلة إلى سخط الله وعذابه.
فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت, أمكن اجتنابها, والبعد عنها.
بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة, فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَسورة الأنعام الآية رقم 56
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قُلْ " لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى.
" إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " من الأنداد والأوثان, التي لا تملك نفعا ولا ضرا, ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فإن هذا باطل, وليس لكم فيه حجة ولا شبهة, ولا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال.
ولهذا قال " قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا " أي: إن اتبعت أهواءكم " وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ " بوجه من الوجوه.
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَسورة الأنعام الآية رقم 57
وأما ما أنا عليه, من توحيد الله, وإخلاص العمل له, فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة.
وأنا " عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي " أي: على يقين مبين, بصحته, وبطلان ما عداه.
وهذه شهادة من الرسول جازمة, لا تقبل التردد, وهو أعدل الشهود على الإطلاق.
فصدق بها المؤمنون, وتبين لهم من صحتها وصدقها, بحسب ما من الله به عليهم.
ولكنكم أيها المشركون - كذبتم " بِهِ " وهو لا يستحق هذا منكم, ولا يليق به إلا التصديق.
وإذا استمررتم على تكذيبكم, فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة وهو عند الله, هو الذي ينزله عليكم, إذا شاء, وكيف شاء.
وإن استعجلتم به, فليس بيدي من الأمر شيء " إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ " فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي, فأمر ونهى, فإنه سيحكم بالحكم الجزائي, فيثيب ويعاقب, بحسب ما تقتضيه حكمته.
فالاعتراض على حكمه مطلقا, مدفوع وقد أوضح السبيل, وقص على عباده الحق قصا, قطع به معاذيرهم, وانقطعت له حجتهم.
ليهلك من هلك عن بينة, ويحيا من حي عن بينة " وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ " بين عباده, في الدنيا والآخرة فيفصل بينهم فصلا, يحمده عليه, حتى من قضى عليه, ووجه الحق نحوه.
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَسورة الأنعام الآية رقم 58
" قُلْ " للمستعجلين بالعذاب, جهلا وعنادا وظلما.
" لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " فأوقعته بكم, ولا خير لكم في ذلك.
ولكن الأمر, عند الحليم الصبور, الذي يعصيه العاصون, ويتجرأ عليه المتجرئون, وهو يعاقبهم, ويرزقهم, ويسدي إليهم نعمه, الظاهرة والباطنة.
" وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ " لا يخفى عليه من أحوالهم شيء, فيمهلهم ولا يهملهم.
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍسورة الأنعام الآية رقم 59
هذه الآية العظيمة, من أعظم الآيات تفصيلا, لعلمه المحيط, وأنه شامل للغيوب كلها, التي يطلع منها ما شاء من خلقه.
وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين, والأنبياء المرسلين, فضلا عن غيرهم من العالمين.
وأنه يعلم ما في البراري والقفار, من الحيوانات, والأشجار, والرمال والحصى, والتراب.
وما في البحار, من حيوانات, ومعادنها, وصيدها, وغير ذلك, مما تحتويه أرجاؤها, ويشمل عليه ماؤها.
" وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ " من أشجار البر والبحر, والبلدان والقفر, والدنيا والآخرة, إلا يعلمها.
" وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ " من حبوب الثمار والزروع, وحبوب البذور التي يبذرها الخلق; وبذور النباتات البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.
" وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ " هذا عموم بعد خصوص " إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " وهو اللوح المحفوظ, قد حواها, واشتمل عليها.
وبعض هذا المذكور, يبهر عقول العقلاء, ويذهل أفئدة النبلاء.
فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته, في أوصافه كلها.
وأن الخلق - من أولهم إلى آخرهم - لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته, لم يكن لهم قدرة, ولا وسع في ذلك.
فتبارك الرب العظيم, الواسع, العليم, الحميد المجيد, الشهيد, المحيط.
وجل من إله, لا يحصي أحد ثناء عليه, بل كما أثنى على نفسه, وفوق ما يثني عليه عباده.
فهذه الآية, دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء, وكتابه المحيط, بجميع الحوادث.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة الأنعام الآية رقم 60
هذا كله, تقرير لإلهيته, واحتجاج على المشركين به, وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم, والإجلال والإكرام.
فأخبر أنه وحده, المتفرد بتدبير عباده, في يقظتهم ومنامهم, وأنه يتوفاهم بالليل, وفاة النوم, فتهدأ حركاتهم, وتستريح أبدانهم.
ويبعثهم في اليقظة من نومهم ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية.
وهو - تعالى - يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال.
ثم لا يزال تعالى هكذا, يتصرف فيهم, حتى يستوفوا آجالهم.
فيقضي بهذا التدبير, أجل مسمى, وهو: أجل الحياة, وأجل آخر فيما بعد ذلك, وهو البعث بعد الموت, ولهذا قال: " ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ " لا إلى غيره " ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " من خير وشر.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6