الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَسورة الأنبياء الآية رقم 31
أَيْ جِبَالًا ثَوَابِت .


أَيْ لِئَلَّا تَمِيد بِهِمْ , وَلَا تَتَحَرَّك لِيَتِمّ الْقَرَار عَلَيْهَا ; قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : الْمَعْنَى كَرَاهِيَة أَنْ تَمِيد . وَالْمَيْد التَّحَرُّك وَالدَّوَرَان . يُقَال : مَادَ رَأْسه ; أَيْ دَارَ . وَمَضَى فِي " النَّحْل " مُسْتَوْفًى .



يَعْنِي فِي الرَّوَاسِي ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَالْفِجَاج الْمَسَالِك . وَالْفَجّ الطَّرِيق الْوَاسِع بَيْن الْجَبَلَيْنِ . وَقِيلَ : وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْض فِجَاجًا أَيْ مَسَالِك ; وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ ; لِقَوْلِهِ :


تَفْسِير الْفِجَاج ; لِأَنَّ الْفَجّ قَدْ يَكُون طَرِيقًا نَافِذًا مَسْلُوكًا وَقَدْ لَا يَكُون . وَقِيلَ : لِيَهْتَدُوا بِالِاعْتِبَارِ بِهَا إِلَى دِينهمْ .


أَيْ يَهْتَدُونَ إِلَى السَّيْر فِي الْأَرْض .
وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَسورة الأنبياء الآية رقم 32
أَيْ مَحْفُوظًا مِنْ أَنْ يَقَع وَيَسْقُط عَلَى الْأَرْض ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَيُمْسِك السَّمَاء أَنْ تَقَع عَلَى الْأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ " [ الْحَجّ : 65 ] . وَقِيلَ : مَحْفُوظًا بِالنُّجُومِ مِنْ الشَّيَاطِين ; قَالَهُ الْفَرَّاء . دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلّ شَيْطَان رَجِيم " [ الْحِجْر : 17 ] . وَقِيلَ : مَحْفُوظًا مِنْ الْهَدْم وَالنَّقْض , وَعَنْ أَنْ يَبْلُغهُ أَحَد بِحِيلَةٍ . وَقِيلَ : مَحْفُوظًا فَلَا يَحْتَاج إِلَى عِمَاد . وَقَالَ مُجَاهِد : مَرْفُوعًا . وَقِيلَ : مَحْفُوظًا مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي .



يَعْنِي الْكُفَّار



قَالَ مُجَاهِد يَعْنِي الشَّمْس وَالْقَمَر . وَأَضَافَ الْآيَات إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهَا مَجْعُولَة فِيهَا , وَقَدْ أَضَافَ الْآيَات إِلَى نَفْسه فِي مَوَاضِع , لِأَنَّهُ الْفَاعِل لَهَا . بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَفَلُوا عَنْ النَّظَر فِي السَّمَوَات وَآيَاتهَا , مِنْ لَيْلهَا وَنَهَارهَا , وَشَمْسهَا وَقَمَرهَا , وَأَفْلَاكهَا وَرِيَاحهَا وَسَحَابهَا , وَمَا فِيهَا مِنْ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى , إِذْ لَوْ نَظَرُوا وَاعْتَبَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا فَيَسْتَحِيل أَنْ يَكُون لَهُ شَرِيك .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَسورة الأنبياء الآية رقم 33
ذَكَّرَهُمْ نِعْمَة أُخْرَى : جَعَلَ لَهُمْ اللَّيْل لِيَسْكُنُوا فِيهِ , وَالنَّهَار لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ


أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْس آيَة النَّهَار , وَالْقَمَر آيَة اللَّيْل ; لِتُعْلَمَ الشُّهُور وَالسُّنُونَ وَالْحِسَاب , كَمَا تَقَدَّمَ فِي " سُبْحَانَ " بَيَانُهُ .


يَعْنِي مِنْ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالْكَوَاكِب وَاللَّيْل وَالنَّهَار


أَيْ يَجْرُونَ وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاء . قَالَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ : " وَالسَّابِحَات سَبْحًا " وَيُقَال لِلْفَرَسِ الَّذِي يَمُدّ يَده فِي الْجَرْي سَابِح . وَفِيهِ مِنْ النَّحْو أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : يُسَبِّحْنَ وَلَا تُسَبِّح ; فَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ : أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِل وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَة بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِل , أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِل وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَة بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِل , أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِالْوَاوِ وَالنُّون . وَنَحْوه قَالَ الْفَرَّاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " يُوسُف " . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : إِنَّمَا قَالَ : " يُسَبِّحُونَ " لِأَنَّهُ رَأْس آيَة , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " نَحْنُ جَمِيع مُنْتَصِر " [ الْقَمَر : 44 ] وَلَمْ يَقُلْ مُنْتَصِرُونَ . وَقِيلَ : الْجَرْي لِلْفَلَكِ فَنُسِبَ إِلَيْهَا . وَالْأَصَحّ أَنَّ السَّيَّارَة تَجْرِي فِي الْفَلَك , وَهِيَ سَبْعَة أَفْلَاك دُون السَّمَوَات الْمُطْبِقَة , الَّتِي هِيَ مَجَال الْمَلَائِكَة وَأَسْبَاب الْمَلَكُوت , فَالْقَمَر فِي الْفَلَك الْأَدْنَى , ثُمَّ عُطَارِد , ثُمَّ الزُّهْرَة , ثُمَّ الشَّمْس , ثُمَّ الْمَرِّيخ , ثُمَّ الْمُشْتَرَى , ثُمَّ زُحَل , وَالثَّامِن فَلَك الْبُرُوج , و التَّاسِع الْفَلَك الْأَعْظَم . وَالْفَلَك وَاحِد أَفْلَاك النُّجُوم . قَالَ أَبُو عَمْرو : وَيَجُوز أَنْ يُجْمَع عَلَى فُعْل مِثْل أَسَد وَأُسْد وَخَشَب وَخُشْب . وَأَصْل الْكَلِمَة مِنْ الدَّوَرَان , وَمِنْهُ فَلْكَة الْمِغْزَل ; لِاسْتِدَارَتِهَا . وَمِنْهُ قِيلَ : فَلَّكَ ثَدْي الْمَرْأَة تَفْلِيكًا , وَتَفَلَّكَ اِسْتَدَارَ . وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود : تَرَكْت فَرَسِي كَأَنَّهُ يَدُور فِي فَلَك . كَأَنَّهُ لِدَوَرَانِهِ شَبَهه بِفَلَكِ السَّمَاء الَّذِي تَدُور عَلَيْهِ النُّجُوم . قَالَ اِبْن زَيْد : الْأَفْلَاك مَجَارِي النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر . قَالَ : وَهِيَ بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض . وَقَالَ قَتَادَة : الْفَلَك اِسْتِدَارَة فِي السَّمَاء تَدُور بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوت السَّمَاء . وَقَالَ مُجَاهِد : الْفَلَك كَهَيْئَةِ حَدِيد الرَّحَى وَهُوَ قُطْبهَا . وَقَالَ الضَّحَّاك : فَلَكهَا مَجْرَاهَا وَسُرْعَة مَسِيرهَا . وَقِيلَ : الْفَلَك مَوْج مَكْفُوف وَمَجْرَى الشَّمْس وَالْقَمَر فِيهِ ; وَاَللَّه أَعْلَم .
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَسورة الأنبياء الآية رقم 34
أَيْ دَوَام الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا نَزَلَتْ حِين قَالُوا : نَتَرَبَّص بِمُحَمَّدٍ رَيْب الْمَنُون . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَدْفَعُونَ نُبُوَّته وَيَقُولُونَ : شَاعِر نَتَرَبَّص بِهِ رَيْب الْمَنُون , وَلَعَلَّهُ يَمُوت كَمَا مَاتَ شَاعِر بَنِي فُلَان ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : قَدْ مَاتَ الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك , وَتَوَلَّى اللَّه دِينه بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَة , فَهَكَذَا نَحْفَظ دِينك وَشَرْعك .



أَيْ أَفَهُمْ ; مِثْل قَوْل الشَّاعِر : رَفُونِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِد لَا تُرَع فَقُلْت وَأَنْكَرْت الْوُجُوه هُمُ هُمُ أَيْ أَهُمْ ! فَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار . وَقَالَ الْفَرَّاء : جَاءَ بِالْفَاءِ لِيَدُلّ عَلَى الشَّرْط ; لِأَنَّهُ جَوَاب قَوْلهمْ سَيَمُوتُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جِيءَ بِهَا ; لِأَنَّ التَّقْدِير فِيهَا : أَفَهُمْ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ ! قَالَ الْفَرَّاء : وَيَجُوز حَذْف الْفَاء وَإِضْمَارهَا ; لِأَنَّ " هُمْ " لَا يَتَبَيَّن فِيهَا الْإِعْرَاب . أَيْ إِنْ مِتَّ فَهُمْ يَمُوتُونَ أَيْضًا , فَلَا شَمَاتَة فِي الْإِمَاتَة . وَقُرِئَ " مِتَّ " بِكَسْرِ الْمِيم وَضَمّهَا لُغَتَانِ .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَسورة الأنبياء الآية رقم 35
أَيْ أَفَهُمْ ; مِثْل قَوْل الشَّاعِر : رَفُونِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِد لَا تُرَع فَقُلْت وَأَنْكَرْت الْوُجُوه هُمُ هُمُ أَيْ أَهُمْ ! فَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار . وَقَالَ الْفَرَّاء : جَاءَ بِالْفَاءِ لِيَدُلّ عَلَى الشَّرْط ; لِأَنَّهُ جَوَاب قَوْلهمْ سَيَمُوتُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جِيءَ بِهَا ; لِأَنَّ التَّقْدِير فِيهَا : أَفَهُمْ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ ! قَالَ الْفَرَّاء : وَيَجُوز حَذْف الْفَاء وَإِضْمَارهَا ; لِأَنَّ " هُمْ " لَا يَتَبَيَّن فِيهَا الْإِعْرَاب . أَيْ إِنْ مِتَّ فَهُمْ يَمُوتُونَ أَيْضًا , فَلَا شَمَاتَة فِي الْإِمَاتَة . وَقُرِئَ " مِتَّ " بِكَسْرِ الْمِيم وَضَمّهَا لُغَتَانِ .

{35} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
الْأَوْلَى : لَمَّا أَخْبَرَ جَلَّ وَتَعَالَى عَنْ الْبَاخِلِينَ وَكُفْرهمْ فِي قَوْلهمْ : " إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء " وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ فِي قَوْله : " لَتُبْلَوُنَّ " [ آل عُمْرَانِ : 186 ] الْآيَة - بَيِّن أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُوم ; فَإِنَّ أَمَد الدُّنْيَا قَرِيب , وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم الْجَزَاء . " ذَائِقَة الْمَوْت " مِنْ الذَّوْق , وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيص عَنْهُ لِلْإِنْسَانِ , وَلَا مَحِيد عَنْهُ لِحَيَوَانٍ . وَقَدْ قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَة يَمُتْ هَرَمًا لِلْمَوْتِ كَأْس وَالْمَرْء ذَائِقهَا وَقَالَ آخَر : الْمَوْت بَاب وَكُلّ النَّاس دَاخِله فَلَيْتَ شِعْرِي بَعْد الْبَاب مَا الدَّار

الثَّانِيَة قِرَاءَة الْعَامَّة " ذَائِقَة الْمَوْت " بِالْإِضَافَةِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَابْن أَبِي إِسْحَاق " ذَائِقَةٌ الْمَوْت " بِالتَّنْوِينِ وَنَصْب الْمَوْت . قَالُوا : لِأَنَّهَا لَمْ تَذُقْ بَعْد . وَذَلِكَ أَنَّ اِسْم الْفَاعِل عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُضِيّ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَال ; فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّل لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَة إِلَى مَا بَعْده ; كَقَوْلِك : هَذَا ضَارِب زَيْد أَمْس , وَقَاتِل بَكْر أَمْس ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْم الْجَامِد وَهُوَ الْعِلْم , نَحْو غُلَام زَيْد , وَصَاحِب بَكْر . قَالَ الشَّاعِر : الْحَافِظ عَوْرَة الْعَشِيرَة لَا يَأْتِيهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَكَف وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِي جَازَ الْجَرّ . وَالنَّصْب وَالتَّنْوِين فِيمَا هَذَا سَبِيله هُوَ الْأَصْل ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفِعْل الْمُضَارِع فَإِنْ كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَعَدٍّ , لَمْ يَتَعَدَّ نَحْو قَاتِل زَيْد . وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا عَدَّيْته وَنَصَبْت بِهِ , فَتَقُول . زَيْد ضَارِب عَمْرًا بِمَعْنَى يَضْرِب عَمْرًا . وَيَجُوز حَذْف التَّنْوِين وَالْإِضَافَة تَخْفِيفًا , كَمَا قَالَ الْمَرَّار : سَلْ الْهُمُوم بِكُلِّ مُعْطِي رَأْسه نَاجٍ مُخَالِط صُهْبَة مُتَعَيِّس مُغْتَال أَحْبُله مُبِين عُنُقه فِي مَنْكِب زَبْن الْمَطِيّ عَرَنْدَس فَحُذِفَ التَّنْوِين تَخْفِيفًا , وَالْأَصْل : مُعْطٍ رَأْسه بِالتَّنْوِينِ وَالنَّصْب , وَمِثْل هَذَا أَيْضًا فِي التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى " هَلْ هُنَّ كَاشِفَات ضُرّه " [ الزُّمَر : 38 ] وَمَا كَانَ مِثْله .

الثَّالِثَة ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ لِلْمَوْتِ أَسْبَابًا وَأَمَارَات , فَمِنْ عَلَامَات مَوْت الْمُؤْمِن عَرَق الْجَبِين . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " الْمُؤْمِن يَمُوت بِعَرَقِ الْجَبِين " . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " التَّذْكِرَة " فَإِذَا اُحْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) لِتَكُونَ آخِر كَلَامه فَيُخْتَم لَهُ بِالشَّهَادَةِ ; وَلَا يُعَاد عَلَيْهِ مِنْهَا لِئَلَّا يَضْجَر . وَيُسْتَحَبّ قِرَاءَة " يس " ذَلِكَ الْوَقْت ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : " اِقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ الْآجُرِّيّ فِي كِتَاب النَّصِيحَة مِنْ حَدِيث أُمّ الدَّرْدَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مَيِّت يُقْرَأ عِنْده سُورَة يس إِلَّا هُوِّنَ عَلَيْهِ الْمَوْت ) . فَإِذَا قُضِيَ وَتَبِعَ الْبَصَر الرُّوح - كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح مُسْلِم - وَارْتَفَعَتْ الْعِبَادَات : وَزَالَ التَّكْلِيف , تَوَجَّهَتْ عَلَى الْأَحْيَاء أَحْكَام ; مِنْهَا تَغْمِيضه , وَإِعْلَام إِخْوَانه الصُّلَحَاء بِمَوْتِهِ ; وَكَرِهَهُ قَوْم وَقَالُوا : هُوَ مِنْ النَّعْي . وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع . وَمِنْهَا الْأَخْذ فِي تَجْهِيزه بِالْغُسْلِ وَالدَّفْن لِئَلَّا يُسْرِع إِلَيْهِ التَّغَيُّر ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ أَخَّرُوا دَفْن مَيِّتهمْ : ( عَجِّلُوا بِدَفْنِ جِيفَتكُمْ ) ; وَقَالَ : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ) الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي . الثَّالِثَة : فَأَمَّا غُسْله فَهُوَ سُنَّة لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَاشَا الشَّهِيد عَلَى مَا تَقَدَّمَ , قِيلَ : غُسْله وَاجِب قَالَهُ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب . وَالْأَوَّل : مَذْهَب الْكِتَاب , وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَسَبَب الْخِلَاف قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأُمِّ عَطِيَّة فِي غُسْلهَا اِبْنَته زَيْنَب , عَلَى مَا فِي كِتَاب مُسْلِم . وَقِيلَ : هِيَ أُمّ كُلْثُوم , عَلَى مَا فِي كِتَاب أَبِي دَاوُد : ( اِغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) الْحَدِيث . وَهُوَ الْأَصْل عِنْد الْعُلَمَاء فِي غُسْل الْمَوْتَى . فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَذَا الْأَمْر بَيَان حُكْم الْغُسْل فَيَكُون وَاجِبًا . وَقِيلَ : الْمَقْصُود مِنْهُ تَعْلِيم كَيْفِيَّة الْغُسْل فَلَا يَكُون فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْوُجُوب . قَالُوا وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) وَهَذَا يَقْتَضِي إِخْرَاج ظَاهِر الْأَمْر عَنْ الْوُجُوب ; لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى نَظَرهنَّ . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا فِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ رَدّك ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ) إِلَى الْأَمْر , لَيْسَ السَّابِق إِلَى الْفَهْم بَلْ السَّابِق رُجُوع هَذَا الشَّرْط إِلَى أَقْرَب مَذْكُور , وَهُوَ ( أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ) أَوْ إِلَى التَّخْيِير فِي الْأَعْدَاد . وَعَلَى الْجُمْلَة فَلَا خِلَاف فِي أَنَّ غُسْل الْمَيِّت مَشْرُوع مَعْمُول بِهِ فِي الشَّرِيعَة لَا يُتْرَك . وَصِفَته كَصِفَةِ غُسْل الْجَنَابَة عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف . وَلَا يُجَاوِز السَّبْع غَسَلَات فِي غُسْل الْمَيِّت بِإِجْمَاعٍ ; عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَر . فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْء بَعْد السَّبْع غُسِلَ الْمَوْضِع وَحْده , وَحُكْمه حُكْم الْجُنُب إِذَا أَحْدَثَ بَعْد غُسْله . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْله كَفَّنَهُ فِي ثِيَابه وَهِيَ :

الرَّابِعَة وَالتَّكْفِين وَاجِب عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء , فَإِنْ كَانَ لَهُ مَال فَمِنْ رَأْس مَاله عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء , إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّهُ قَالَ : مِنْ الثُّلُث كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . فَإِنْ كَانَ الْمَيِّت مِمَّنْ تَلْزَم غَيْره نَفَقَته فِي حَيَاته مِنْ سَيِّد - إِنْ كَانَ عَبْدًا - أَوْ أَب أَوْ زَوْج أَوْ اِبْن ; فَعَلَى السَّيِّد بِاتِّفَاقٍ , وَعَلَى الزَّوْج وَالْأَب وَالِابْن بِاخْتِلَافٍ . ثُمَّ عَلَى بَيْت الْمَال أَوْ عَلَى جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكِفَايَة . وَاَلَّذِي يَتَعَيَّن مِنْهُ بِتَعْيِينِ الْفَرْض سَتْر الْعَوْرَة ; فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْل غَيْر أَنَّهُ لَا يَعُمّ جَمِيع الْجَسَد غُطِّيَ رَأْسه وَوَجْهه ; إِكْرَامًا لِوَجْهِهِ وَسَتْرًا لِمَا يَظْهَر مِنْ تَغَيُّر مَحَاسِنه . وَالْأَصْل فِي هَذَا قِصَّة مُصْعَب بْن عُمَيْر , فَإِنَّهُ تَرَكَ يَوْم أُحُد نَمِرَة كَانَ إِذَا غُطِّيَ رَأْسه خَرَجَتْ رِجْلَاهُ , وَإِذَا غُطِّيَ رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسه ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسه وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِر ) أَخْرَجَ الْحَدِيث مُسْلِم . وَالْوِتْر مُسْتَحَبّ عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء فِي الْكَفَن , وَكُلّهمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدّ . وَالْمُسْتَحَبّ مِنْهُ الْبَيَاض ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِلْبَسُوا مِنْ ثِيَابكُمْ الْبَيَاض فَإِنَّهَا مِنْ خَيْر ثِيَابكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَكُفِّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب بِيض سُحُولِيَّة مِنْ كُرْسُف . وَالْكَفَن فِي غَيْر الْبَيَاض جَائِز إِلَّا أَنْ يَكُون حَرِيرًا أَوْ خَزًّا . فَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَة فِي الْكَفَن قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي مِثْل لِبَاسه فِي جُمْعَته وَأَعْيَاده ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَفَّنَ أَحَدكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنه ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . إِلَّا أَنْ يُوصِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ أَوْصَى بِسَرَفٍ قِيلَ : يَبْطُل الزَّائِد . وَقِيلَ : يَكُون فِي الثُّلُث . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تُسْرِفُوا ) [ الْأَنْعَام : 141 ] . وَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّهُ لِلْمُهْلَةِ . فَإِذَا فُرِغَ مِنْ غُسْله وَتَكْفِينَهُ وَوُضِعَ عَلَى سَرِيره وَاحْتَمَلَهُ الرِّجَال عَلَى أَعْنَاقهمْ وَهِيَ :

الْخَامِسَة فَالْحُكْم الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَة فَخَيْر تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَشَرّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابكُمْ ) . لَا كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم الْجُهَّال فِي الْمَشْي رُوَيْدًا وَالْوُقُوف بِهَا الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة , وَقِرَاءَة الْقُرْآن بِالْأَلْحَانِ إِلَى مَا لَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز حَسَب مَا يَفْعَلهُ أَهْل الدِّيَار الْمِصْرِيَّة بِمَوْتَاهُمْ . رَوَى النَّسَائِيّ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا خَالِد قَالَ أَنْبَأَنَا عُيَيْنَة بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : شَهِدْت جِنَازَة عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة وَخَرَجَ زِيَاد يَمْشِي بَيْن يَدَيْ السَّرِير , فَجَعَلَ رِجَال مِنْ أَهْل عَبْد الرَّحْمَن وَمَوَالِيهمْ يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِير وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابهمْ وَيَقُولُونَ : رُوَيْدًا رُوَيْدًا , بَارَكَ اللَّه فِيكُمْ ! فَكَانُوا يَدِبُّونَ دَبِيبًا , حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيق الْمِرْيَد لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى بَغْلَة فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ يَصْنَعُونَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ فَقَالَ : خَلُّوا ! فَوَاَلَّذِي أَكْرَمَ وَجْه أَبِي الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهَا لَنَكَاد نَرْمُل بِهَا رَمَلًا , فَانْبَسَطَ الْقَوْم . وَرَوَى أَبُو مَاجِدَة عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ سَأَلْنَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ عَنْ الْمَشْي مَعَ الْجِنَازَة فَقَالَ : ( دُون الْخَبَب إِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّل إِلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّار ) الْحَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَة الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ الْإِسْرَاع فَوْق السَّجِيَّة قَلِيلًا , وَالْعَجَلَة أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْطَاء . وَيُكْرَه الْإِسْرَاع الَّذِي يَشُقّ عَلَى ضَعَفَة النَّاس مِمَّنْ يَتْبَعهَا . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : بَطِّئُوا بِهَا قَلِيلًا وَلَا تَدِبُّوا دَبِيب الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْم الْإِسْرَاع فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة تَعْجِيل الدَّفْن لَا الْمَشْي , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .

السَّادِسَة وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِ فَهِيَ وَاجِبَة عَلَى الْكِفَايَة كَالْجِهَادِ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء : مَالِك وَغَيْره ; لِقَوْلِهِ فِي النَّجَاشِيّ : ( قُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) . وَقَالَ أَصْبَغ : إِنَّهَا سُنَّة . وَرَوَى عَنْ مَالِك . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَة بَيَان فِي " بَرَاءَة " .

السَّابِعَة وَأَمَّا دَفْنه فِي التُّرَاب وَدَسّه وَسَتْره فَذَلِكَ وَاجِب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَبْحَث فِي الْأَرْض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَة أَخِيهِ " [ الْمَائِدَة : 31 ] . وَهُنَاكَ يُذْكَر حُكْم بُنْيَان الْقَبْر وَمَا يُسْتَحَبّ مِنْهُ , وَكَيْفِيَّة جَعْل الْمَيِّت فِيهِ . وَيَأْتِي فِي " الْكَهْف " حُكْم بِنَاء الْمَسْجِد عَلَيْهِ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ أَحْكَام الْمَوْتَى وَمَا يَجِب لَهُمْ عَلَى الْأَحْيَاء . وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي سُنَن النَّسَائِيّ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ : ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَالِك بِسُوءٍ فَقَالَ : ( لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ) .



" فِتْنَة " مَصْدَر عَلَى غَيْر اللَّفْظ . أَيْ نَخْتَبِركُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالْحَلَال وَالْحَرَام , فَنَنْظُر كَيْفَ شُكْركُمْ وَصَبْركُمْ .


أَيْ لِلْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ .
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 36
أَيْ مَا يَتَّخِذُونَك . وَالْهُزْء السُّخْرِيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهُمْ الْمُسْتَهْزِئُونَ الْمُتَقَدِّمُو الذِّكْر فِي آخِر سُورَة " الْحِجْر " فِي قَوْله : " إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ " [ الْحِجْر : 95 ] . كَانُوا يَعِيبُونَ مَنْ جَحَدَ إِلَهِيَّة أَصْنَامهمْ وَهُمْ جَاحِدُونَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّحْمَن ; وَهَذَا غَايَة الْجَهْل .


أَيْ يَقُولُونَ : أَهَذَا الَّذِي ؟ فَأَضْمَرَ الْقَوْل وَهُوَ جَوَاب " إِذَا " وَقَوْله : " إِنْ يَتَّخِذُونَك إِلَّا هُزُوًا " كَلَام مُعْتَرِض بَيْن " إِذَا " وَجَوَابه .



أَيْ بِالسُّوءِ وَالْعَيْب . وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة . لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْته فَيَكُون جِلْدك مِثْل جِلْد الْأَجْرَب أَيْ لَا تَعِيبِي مُهْرِي .


أَيْ بِالْقُرْآنِ .


" هُمْ " الثَّانِيَة تَوْكِيد كُفْرهمْ , أَيْ هُمْ الْكَافِرُونَ مُبَالَغَة فِي وَصْفهمْ بِالْكُفْرِ .
خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِسورة الأنبياء الآية رقم 37
أَيْ رُكِّبَ عَلَى الْعَجَلَة فَخُلِقَ عَجُولًا ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " اللَّه الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْف " [ الرُّوم : 54 ] أَيْ خُلِقَ الْإِنْسَان ضَعِيفًا . وَيُقَال : خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ الشَّرّ أَيْ شِرِّيرًا إِذَا بَالَغْت فِي وَصْفه بِهِ . وَيُقَال : إِنَّمَا أَنْتَ ذَهَاب وَمَجِيء . أَيْ ذَاهِب جَائِي . أَيْ طَبْع الْإِنْسَان الْعَجَلَة , فَيَسْتَعْجِل كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاء وَإِنْ كَانَتْ مُضِرَّة . ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَاد بِالْإِنْسَانِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ : لَمَّا دَخَلَ الرُّوج فِي عَيْنَيْ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام نَظَرَ فِي ثِمَار الْجَنَّة , فَلَمَّا دَخَلَ جَوْفه اِشْتَهَى الطَّعَام , فَوَثَبَ مِنْ قَبْل أَنْ تَبْلُغ الرُّوح رِجْلَيْهِ عَجْلَان إِلَى ثِمَار الْجَنَّة . فَذَلِكَ قَوْله : " خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل " . وَقِيلَ خُلِقَ آدَم يَوْم الْجُمْعَة . فِي آخِر النَّهَار , فَلَمَّا أَحْيَا اللَّه رَأْسه اِسْتَعْجَلَ , وَطَلَبَ تَتْمِيم نَفْخ الرُّوح فِيهِ قَبْل غُرُوب الشَّمْس ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَكَثِير مِنْ أَهْل الْمَعَانِي : الْعَجَل الطِّين بِلُغَةِ حِمْيَر . وَأَنْشَدُوا : وَالنَّخْل يَنْبُت بَيْن الْمَاء وَالْعَجَل وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْإِنْسَانِ النَّاس كُلّهمْ . وَقِيلَ الْمُرَاد : النَّضْر بْن الْحَرْث بْن عَلْقَمَة بْن كِلْدَة بْن عَبْد الدَّار فِي تَفْسِير اِبْن عَبَّاس ; أَيْ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ خُلِقَ مِنْ الطِّين الْحَقِير أَنْ يَسْتَهْزِئ بِآيَاتِ اللَّه وَرُسُله . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِنْ الْمَقْلُوب ; أَيْ خُلِقَ الْعَجَل مِنْ الْإِنْسَان . وَهُوَ مَذْهَب أَبِي عُبَيْدَة . النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَاب بِهِ فِي كِتَاب اللَّه ; لِأَنَّ الْقَلْب إِنَّمَا يَقَع فِي الشِّعْر اِضْطِرَارًا كَمَا قَالَ : كَانَ الزِّنَاء فَرِيضَة الرَّجْم وَنَظِيره هَذِهِ الْآيَة : " وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولًا " [ الْإِسْرَاء : 11 ] وَقَدْ مَضَى فِي " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء : 1 ] .



هَذَا يُقَوِّي الْقَوْل الْأَوَّل , وَأَنَّ طَبْع الْإِنْسَان الْعَجَلَة , وَأَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَك , كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي " الْإِسْرَاء " . وَالْمُرَاد بِالْآيَاتِ مَا دَلَّ عَلَى صِدْق مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الْمُعْجِزَات , وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْعَاقِبَة الْمَحْمُودَة . وَقِيلَ : مَا طَلَبُوهُ مِنْ الْعَذَاب , فَأَرَادُوا الِاسْتِعْجَال وَقَالُوا : " مَتَى هَذَا الْوَعْد " [ يُونُس : 48 ] ؟ وَمَا عَلِمُوا أَنَّ لِكُلِّ شَيْء أَجَلًا مَضْرُوبًا . نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَرْث . وَقَوْله : " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ " [ الْأَنْفَال : 32 ] . وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : مَعْنَى " خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل " أَيْ قِيلَ لَهُ كُنْ فَكَانَ , فَمَعْنَى " فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ " عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّهُ مَنْ يَقُول لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُون , لَا يُعْجِزهُ إِظْهَار مَا اِسْتَعْجَلُوهُ مِنْ الْآيَات .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة الأنبياء الآية رقم 38
أَيْ الْمَوْعُود , كَمَا يُقَال : اللَّه رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوّنَا . وَقِيلَ : مَعْنَى " الْوَعْد " هُنَا الْوَعِيد , أَيْ الَّذِي يَعِدنَا مِنْ الْعَذَاب . وَقِيلَ : الْقِيَامَة .


يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ .
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 39
الْعِلْم هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَة فَلَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا ثَانِيًا مِثْل " لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّه يَعْلَمهُمْ " [ الْأَنْفَال : 60 ] . وَجَوَاب " لَوْ " مَحْذُوف , أَيْ لَوْ عَلِمُوا الْوَقْت الَّذِي


وَعَرَفُوهُ لَمَا اِسْتَعْجَلُوا الْوَعِيد . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ لَعَلِمُوا صِدْق الْوَعْد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ عَلِمُوهُ لَمَا أَقَامُوا عَلَى الْكُفْر وَلَآمَنُوا . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : هُوَ تَنْبِيه عَلَى تَحْقِيق وُقُوع السَّاعَة , أَيْ لَوْ عَلِمُوهُ عِلْم يَقِين لَعَلِمُوا أَنَّ السَّاعَة آتِيَة . وَدَلَّ عَلَيْهِ
بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 40
أَيْ فَجْأَة يَعْنِي الْقِيَامَة . وَقِيلَ : الْعُقُوبَة . وَقِيلَ : النَّار فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حِيلَة


قَالَ الْجَوْهَرِيّ : بَهَتَهُ بَهْتًا أَخَذَهُ بَغْتَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَة فَتَبْهَتهُمْ " وَقَالَ الْفَرَّاء : " فَتَبْهَتهُمْ " أَيْ تُحَيِّرهُمْ , يُقَال : بَهَتَهُ يَبْهَتهُ إِذَا وَاجَهَهُ بِشَيْءٍ يُحَيِّرهُ . وَقِيلَ : فَتَفْجَأهُمْ .




أَيْ صَرْفهَا عَنْ ظُهُورهمْ .


أَيْ لَا يُمْهَلُونَ وَيُؤَخَّرُونَ لِتَوْبَةٍ وَاعْتِذَار .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونسورة الأنبياء الآية رقم 41
هَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَة لَهُ . يَقُول : إِنْ اِسْتَهْزَأَ بِك هَؤُلَاءِ , فَقَدْ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلك , فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا . ثُمَّ وَعَدَهُ النَّصْر فَقَالَ :


أَيْ أَحَاطَ وَدَارَ



بِاَلَّذِينَ " كَفَرُوا



وَهَزَءُوا بِهِمْ


أَيْ جَزَاء اِسْتِهْزَائِهِمْ .
قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَسورة الأنبياء الآية رقم 42
أَيْ يَحْرُسكُمْ وَيَحْفَظكُمْ . وَالْكِلَاءَة الْحِرَاسَة وَالْحِفْظ ; كَلَأَهُ اللَّه كِلَاء ( بِالْكَسْرِ ) أَيْ حَفِظَهُ وَحَرَسَهُ . يُقَال : اِذْهَبْ فِي كِلَاءَة اللَّه ; وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُمْ أَيْ اِحْتَرَسْت , قَالَ الشَّاعِر هُوَ اِبْن هَرْمَة : إِنَّ سُلَيْمَى وَاَللَّه يَكْلَؤُهَا ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا وَقَالَ آخَر : أَنَخْت بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ وَحَكَى الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء " قُلْ مَنْ يَكْلَؤْكُمْ " بِفَتْحِ اللَّام وَإِسْكَان الْوَاو . وَحَكَيَا " مَنْ يَكْلَاكُمْ " عَلَى تَخْفِيف الْهَمْزَة فِي الْوَجْهَيْنِ , وَالْمَعْرُوف تَحْقِيق الْهَمْزَة وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة . فَأَمَّا " يَكْلَاكُمْ " فَخَطَأ مِنْ وَجْهَيْنِ فِيمَا ذَكَرَهُ النَّحَّاس : أَحَدهمَا : أَنَّ بَدَل الْهَمْزَة . يَكُون فِي الشِّعْر . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا يَقُولَانِ فِي الْمَاضِي كَلَيْته , فَيَنْقَلِب الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كَلَيْته أَوْجَعْت كُلْيَته , وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : كَلَاك اللَّه فَقَدْ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُصِيبهُ اللَّه بِالْوَجَعِ فِي كُلْيَته . ثُمَّ قِيلَ : مَخْرَج اللَّفْظ مَخْرَج الِاسْتِفْهَام وَالْمُرَاد بِهِ النَّفْي . وَتَقْدِيره : قُلْ لَا حَافِظ لَكُمْ


إِذَا نِمْتُمْ


إِذَا قُمْتُمْ وَتَصَرَّفْتُمْ فِي أُمُوركُمْ .


أَيْ مِنْ عَذَابه وَبَأْسه ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَمَنْ يَنْصُرنِي مِنْ اللَّه " [ هُود : 63 ] أَيْ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَالْخِطَاب لِمَنْ اِعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِالصَّانِعِ ; أَيْ إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ الْخَالِق , فَهُوَ الْقَادِر عَلَى إِحْلَال الْعَذَاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ .


أَيْ عَنْ الْقُرْآن . وَقِيلَ : عَنْ مَوَاعِظ رَبّهمْ . وَقِيلَ : عَنْ مَعْرِفَته .


لَاهُونَ غَافِلُونَ .
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَسورة الأنبياء الآية رقم 43
الْمَعْنَى : أَلَهُمْ وَالْمِيم صِلَة .


أَيْ مِنْ عَذَابنَا .


يَعْنِي الَّذِينَ زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّار أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ


فَكَيْفَ يَنْصُرُونَ عَابِدِيهِمْ .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُمْنَعُونَ . وَعَنْهُ : يُجَارُونَ ; وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . تَقُول الْعَرَب : أَنَا لَك جَار وَصَاحِب . مِنْ فُلَان ; أَيْ مُجِير مِنْهُ ; قَالَ الشَّاعِر : يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْته مُتَعَوِّذًا لِيُصْحَب مِنْهَا وَالرِّمَاح دَوَانِي وَرَوَى مَعْمَر عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : " يُنْصَرُونَ " أَيْ يُحْفَظُونَ . قَتَادَة : أَيْ لَا يَصْحَبهُمْ اللَّه بِخَيْرٍ , وَلَا يَجْعَل رَحْمَته صَاحِبًا لَهُمْ .
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَسورة الأنبياء الآية رقم 44
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد أَهْل مَكَّة . أَيْ بَسَطْنَا لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ فِي نَعِيمهَا


فِي النِّعْمَة . فَظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَزُول عَنْهُمْ , فَاغْتَرُّوا وَأَعْرَضُوا عَنْ تَدَبُّر حُجَج اللَّه عَزَّ وَجَلَّ


أَيْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهَا لَك يَا مُحَمَّد أَرْضًا بَعْد أَرْض , وَفَتَحَهَا بَلَدًا بَعْد بَلَد مِمَّا حَوْل مَكَّة ; قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَن وَغَيْره . وَقِيلَ : بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي ; حَكَاهُ الْكَلْبِيّ . وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَدْ مَضَى فِي " الرَّعْد " الْكَلَام فِي هَذَا مُسْتَوْفًى .


يَعْنِي , كُفَّار مَكَّة بَعْد أَنْ نَقَصْنَا مِنْ أَطْرَافهمْ , بَلْ أَنْتَ تَغْلِبهُمْ وَتَظْهَر عَلَيْهِمْ .
قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 45
أَيْ أُخَوِّفكُمْ وَأُحَذِّركُمْ بِالْقُرْآنِ .


أَيْ مَنْ أَصَمَّ اللَّه قَلْبه , وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه , وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة , عَنْ فَهْم الْآيَات وَسَمَاع الْحَقّ . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " وَلَا يُسْمَع " بِيَاءِ مَضْمُومَة وَفَتْح الْمِيم عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله " الصُّمّ " رَفْعًا أَيْ إِنَّ اللَّه لَا يُسْمِعهُمْ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَالسُّلَّمَيَّ أَيْضًا , وَأَبُو حَيْوَة وَيَحْيَى بْن الْحَرْث " وَلَا تُسْمِع " بِتَاءٍ مَضْمُومَة وَكَسْر الْمِيم " الصُّمّ " نَصْبًا ; أَيْ إِنَّك يَا مُحَمَّد " لَا تُسْمِع الصُّمّ الدُّعَاء " ; فَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَدَّ هَذِهِ الْقِرَاءَة بَعْض أَهْل اللُّغَة . وَقَالَ : وَكَانَ يَجِب أَنْ يَقُول : إِذَا مَا تُنْذِرهُمْ . قَالَ النَّحَّاس : وَذَلِكَ جَائِز ; لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ الْمَعْنَى .
وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 46
قَالَ اِبْن عَبَّاس : طَرَف . قَالَ قَتَاده : عُقُوبَة . اِبْن كَيْسَان : قَلِيل وَأَدْنَى شَيْء ; مَأْخُوذَة مِنْ نَفْح الْمِسْك . قَالَ قَيْس بْن الْخَطِيم : وَعَمْرَة مِنْ سَرَوَات النِّسَاء تَنَفَّح بِالْمِسْكِ أَرْدَانهَا اِبْن جُرَيْج : نَصِيب ; كَمَا يُقَال : نَفَحَ فُلَان لِفُلَانٍ مِنْ عَطَائِهِ , إِذَا أَعْطَاهُ نَصِيبًا مِنْ الْمَال . قَالَ الشَّاعِر : لَمَّا أَتَيْتُك أَرْجُو فَضْل نَائِلكُمْ نَفَحْتنِي نَفْحَة طَابَتْ لَهَا الْعَرَب أَيْ طَابَتْ لَهَا النَّفْس . وَالنَّفْحَة فِي اللُّغَة الدَّفْعَة الْيَسِيرَة ; فَالْمَعْنَى وَلَئِنْ مَسَّهُمْ أَقَلّ شَيْء مِنْ الْعَذَاب .


أَيْ مُتَعَدِّينَ فَيَعْتَرِفُونَ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الِاعْتِرَاف .
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَسورة الأنبياء الآية رقم 47
الْمَوَازِين جَمْع مِيزَان . فَقِيلَ : إِنَّهُ يَدُلّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُكَلَّف مِيزَانًا تُوزَن بِهِ أَعْمَاله , فَتُوضَع الْحَسَنَات فِي كِفَّة , وَالسَّيِّئَات فِي كِفَّة . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون هُنَاكَ مَوَازِين لِلْعَامِلِ الْوَاحِد , يُوزَن بِكُلِّ مِيزَان مِنْهَا صِنْف مِنْ أَعْمَاله ; كَمَا قَالَ : مَلِك تَقُوم الْحَادِثَات لِعَدْلِهِ فَلِكُلِّ حَادِثَة لَهَا مِيزَان وَيُمْكِن أَنْ يَكُون مِيزَانًا وَاحِدًا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْع . وَخَرَّجَ اللَّالْكَائِيّ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي سُنَنه عَنْ أَنَس يَرْفَعهُ : ( إِنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَم فَيُوقَف بَيْن كِفَّتَيْ الْمِيزَان فَإِنْ رَجَحَ نَادَى الْمَلَك بِصَوْتٍ يُسْمِع الْخَلَائِق سَعِدَ فُلَان سَعَادَة لَا يَشْقَى بَعْدهَا أَبَدًا وَإِنْ خَفَّ نَادَى الْمَلَك شَقِيَ فُلَان شَقَاوَة لَا يَسْعَد بَعْدهَا أَبَدًا ) . وَخَرَّجَ عَنْ حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : ( صَاحِب الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ) وَقِيلَ : لِلْمِيزَانِ كِفَّتَانِ وَخُيُوط وَلِسَان وَالشَّاهَيْنِ ; فَالْجَمْع يَرْجِع إِلَيْهَا . وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك : ذِكْر الْمِيزَان مَثَل وَلَيْسَ ثَمَّ مِيزَان وَإِنَّمَا هُوَ الْعَدْل . وَاَلَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَار وَعَلَيْهِ السَّوَاد الْأَعْظَم الْقَوْل الْأَوَّل . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف " بَيَان هَذَا , وَفِي " الْكَهْف " أَيْضًا . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَ " الْقِسْط " الْعَدْل أَيْ لَيْسَ فِيهَا بَخْس وَلَا ظُلْم كَمَا يَكُون فِي وَزْن الدُّنْيَا . وَ " الْقِسْط " صِفَة الْمَوَازِين وَوُحِّدَ لِأَنَّهُ مَصْدَر ; يُقَال : مِيزَان قِسْط , وَمِيزَانَانِ قِسْط , وَمَوَازِين قِسْط . مِثْل رِجَال عَدْل وَرِضًا . وَقَرَأَتْ فِرْقَة " الْقِصْط " بِالصَّادِ . " لِيَوْمِ الْقِيَامَة " أَيْ لِأَهْلِ يَوْم الْقِيَامَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فِي يَوْم الْقِيَامَة . " فَلَا تُظْلَم نَفْس شَيْئًا " أَيْ لَا يُنْقَص مِنْ إِحْسَان مُحْسِن وَلَا يُزَاد فِي إِسَاءَة مُسِيء .


قَرَأَ نَافِع وَشَيْبَة وَأَبُو جَعْفَر " مِثْقَال حَبَّة " بِالرَّفْعِ هُنَا ; وَفِي " لُقْمَان " عَلَى مَعْنَى إِنْ وَقَعَ أَوْ حَضَرَ ; فَتَكُون كَانَ تَامَّة وَلَا تَحْتَاج إِلَى خَبَر . الْبَاقُونَ " مِثْقَال " بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْعَمَل أَوْ ذَلِكَ الشَّيْء مِثْقَال . وَمِثْقَال الشَّيْء مِيزَانه مِنْ مِثْله .


مَقْصُورَة الْأَلِف قِرَاءَة الْجُمْهُور أَيْ أَحْضَرْنَاهَا وَجِئْنَا بِهَا لِلْمُجَازَاةِ عَلَيْهَا وَلَهَا . يُجَاء بِهَا أَيْ بِالْحُجَّةِ وَلَوْ قَالَ بِهِ أَيْ بِالْمِثْقَالِ لَجَازَ . وَقِيلَ : مِثْقَال الْحَبَّة لَيْسَ شَيْئًا غَيْر الْحَبَّة فَلِهَذَا قَالَ : " أَتَيْنَا بِهَا " . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة " آتَيْنَا " بِالْمَدِّ عَلَى مَعْنَى جَازَيْنَا بِهَا . يُقَال آتَى يُؤَاتِي مُؤَاتَاة .


أَيْ مُحَاسِبِينَ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْر وَشَرّ . وَقِيلَ : " حَاسِبِينَ " إِذْ لَا أَحَد أَسْرَع حِسَابًا مِنَّا . وَالْحِسَاب الْعَدّ . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصَوْنَنِي وَأَشْتُمهُمْ وَأَضْرِبهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ( يُحْسَب مَا خَانُوك وَعَصَوْك وَكَذَّبُوك وَعِقَابك إِيَّاهُمْ فَإِنْ كَانَ عِقَابك إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبهمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَك وَلَا عَلَيْك وَإِنْ كَانَ عِقَابك إِيَّاهُمْ دُون ذُنُوبهمْ كَانَ فَضْلًا لَك وَإِنْ كَانَ عِقَابك فَوْق ذُنُوبهمْ اُقْتُصَّ لَهُمْ مِنْك الْفَضْل ) قَالَ : فَتَنَحَّى الرَّجُل فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِف . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَمَا تَقْرَأ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : " وَنَضَع الْمَوَازِين الْقِسْط لِيَوْمِ الْقِيَامَة فَلَا تُظْلَم نَفْس شَيْئًا " ) فَقَالَ الرَّجُل : وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه مَا أَجِد لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتهمْ , أُشْهِدك أَنَّهُمْ أَحْرَار كُلّهمْ . قَالَ حَدِيث غَرِيب .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَسورة الأنبياء الآية رقم 48
وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة " الْفُرْقَان ضِيَاء " بِغَيْرِ وَاو عَلَى الْحَال . وَزَعَمَ الْفَرَّاء . أَنَّ حَذْف الْوَاو وَالْمَجِيء بِهَا وَاحِد , كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب وَحِفْظًا " [ الصَّافَّات : 6 - 7 ] أَيْ حِفْظًا . وَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج . قَالَ : لِأَنَّ الْوَاو تَجِيء لِمَعْنًى فَلَا تُزَاد . قَالَ : وَتَفْسِير " الْفُرْقَان " التَّوْرَاة ; لِأَنَّ فِيهَا الْفَرْق بَيْن الْحَرَام وَالْحَلَال . قَالَ : " وَضِيَاء " مَثَل " فِيهِ هُدًى وَنُور " وَقَالَ اِبْن زَيْد : " الْفُرْقَان " هُنَا هُوَ النَّصْر عَلَى الْأَعْدَاء ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدنَا يَوْم الْفُرْقَان " [ الْأَنْفَال : 41 ] يَعْنِي يَوْم بَدْر . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِظَاهِرِ الْآيَة ; لِدُخُولِ الْوَاو فِي الضِّيَاء ; فَيَكُون مَعْنَى الْآيَة : وَلَقَدْ أَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون النَّصْر وَالتَّوْرَاة الَّتِي هِيَ الضِّيَاء وَالذِّكْر .
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَسورة الأنبياء الآية رقم 49
أَيْ غَائِبِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا اللَّه تَعَالَى , بَلْ عَرَفُوا بِالنَّظَرِ . وَالِاسْتِدْلَال أَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَادِرًا , يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَال فَهُمْ يَخْشَوْنَهُ فِي سَرَائِرهمْ , وَخَلَوَاتهمْ الَّتِي يَغِيبُونَ فِيهَا عَنْ النَّاس .


أَيْ مِنْ قِيَامهَا قَبْل التَّوْبَة .


أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ
وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 50
يَعْنِي الْقُرْآن


يَا مَعْشَر الْعَرَب


وَهُوَ مُعْجِز لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْإِتْيَان بِمِثْلِهِ . وَأَجَازَ الْفَرَّاء " وَهَذَا ذِكْر مُبَارَكًا أَنْزَلْنَاهُ " بِمَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكًا
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 51
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ أَعْطَيَاهُ هُدَاهُ .


أَيْ مِنْ قَبْل النُّبُوَّة ; أَيْ وَفَّقْنَاهُ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال , لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل فَرَأَى النَّجْم وَالشَّمْس وَالْقَمَر . وَقِيلَ : " مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل مُوسَى وَهَارُون . وَالرُّشْد عَلَى هَذَا النُّبُوَّة . وَعَلَى الْأَوَّل أَكْثَر أَهْل التَّفْسِير ; كَمَا قَالَ لِيَحْيَى : " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْم صَبِيًّا " [ مَرْيَم : 12 ] . وَقَالَ الْقَرَظِيّ : رُشْده صَلَاحه .


أَيْ إِنَّهُ أَهْل لِإِيتَاءِ الرُّشْد وَصَالِح لِلنُّبُوَّةِ .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَسورة الأنبياء الآية رقم 52
قِيلَ : الْمَعْنَى أَيْ اُذْكُرْ حِين قَالَ لِأَبِيهِ ; فَيَكُون الْكَلَام قَدْ تَمَّ عِنْد قَوْله : " وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى ; " وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ " فَيَكُون الْكَلَام مُتَّصِلًا وَلَا يُوقَف عَلَى قَوْله : " عَالِمِينَ " . " لِأَبِيهِ " وَهُوَ آزَر " وَقَوْمه " نُمْرُود وَمَنْ اِتَّبَعَهُ .


أَيْ الْأَصْنَام . وَالتِّمْثَال اِسْم مَوْضُوع لِلشَّيْءِ الْمَصْنُوع مُشَبَّهًا بِخَلْقٍ مِنْ خَلْق اللَّه تَعَالَى . يُقَال : مَثَّلْت الشَّيْء بِالشَّيْءِ أَيْ شَبَّهْته بِهِ . وَاسْم ذَلِكَ الْمُمَثَّل تِمْثَال .

أَيْ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتهَا .
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 53
أَيْ نَعْبُدهَا تَقْلِيدًا لِأَسْلَافِنَا .
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍسورة الأنبياء الآية رقم 54
أَيْ فِي خُسْرَان بِعِبَادَتِهَا ; إِذْ هِيَ جَمَادَات لَا تَنْفَع وَلَا تَضُرّ وَلَا تَعْلَم .
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَسورة الأنبياء الآية رقم 55
أَيْ أَجَاءٍ أَنْتَ بِحَقٍّ فِيمَا تَقُول ؟


أَيْ لَاعِب مَازِح .
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 56
أَيْ لَسْت بِلَاعِبٍ , بَلْ رَبّكُمْ وَالْقَائِم بِتَدْبِيرِكُمْ خَالِق السَّمَوَات وَالْأَرْض .


أَيْ خَلَقَهُنَّ وَأَبْدَعَهُنَّ .



أَيْ عَلَى أَنَّهُ رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَالشَّاهِد يُبَيِّن الْحُكْم , وَمِنْهُ " شَهِدَ اللَّه " [ آل عِمْرَان : 18 ] بَيَّنَ اللَّه ; فَالْمَعْنَى : وَأَنَا أُبَيِّن بِالدَّلِيلِ مَا أَقُول .
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَسورة الأنبياء الآية رقم 57
" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ " أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالْمُحَاجَّةِ بِاللِّسَانِ بَلْ كَسَّرَ أَصْنَامهمْ فِعْل وَاثِق بِاَللَّهِ تَعَالَى , مُوَطِّن نَفْسه عَلَى مُقَاسَاة الْمَكْرُوه فِي الذَّبّ عَنْ الدِّين . وَالتَّاء فِي " تَاللَّهِ " تَخْتَصّ فِي الْقَسَم بِاسْمِ اللَّه وَحْده , وَالْوَاو تَخْتَصّ بِكُلِّ مُظْهَر , وَالْبَاء بِكُلِّ مُضْمَر وَمُظْهَر . قَالَ الشَّاعِر : تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّام ذُو حِيَد بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّان وَالْآسُ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ وَحُرْمَة اللَّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ , أَيْ لَأَمْكُرَنَّ بِهَا . وَالْكَيْد الْمَكْر . كَادَهُ يَكِيدهُ كَيْدًا وَمَكِيدَة , وَكَذَلِكَ الْمُكَايَدَة ; وَرُبَّمَا سُمِّيَ الْحَرْب كَيْدًا ; يُقَال : غَزَا فُلَان فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا , وَكُلّ شَيْء تُعَالِجهُ فَأَنْتَ تَكِيدهُ .


أَيْ مُنْطَلِقِينَ ذَاهِبِينَ . وَكَانَ لَهُمْ فِي كُلّ سَنَة عِيد يَجْتَمِعُونَ فِيهِ , فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ : لَوْ خَرَجْت مَعَنَا إِلَى عِيدنَا أَعْجَبَك دِيننَا - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " وَالصَّافَّات " - فَقَالَ إِبْرَاهِيم فِي نَفْسه : " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ " . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيم فِي سِرّ مِنْ قَوْمه , وَلَمْ يَسْمَعهُ إِلَّا رَجُل . وَاحِد وَهُوَ الَّذِي أَفْشَاهُ عَلَيْهِ وَالْوَاحِد يُخْبِر عَنْهُ بِخَبَرِ الْجَمْع إِذَا كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَرْضَى بِهِ غَيْره وَمِثْله " يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ " [ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَالَهُ بَعْد خُرُوج الْقَوْم , وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الضُّعَفَاء فَهُمْ الَّذِينَ سَمِعُوهُ . وَكَانَ إِبْرَاهِيم اِحْتَالَ فِي التَّخَلُّف عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : " إِنِّي سَقِيم " [ الصَّافَّات : 89 ] أَيْ ضَعِيف عَنْ الْحَرَكَة .
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَسورة الأنبياء الآية رقم 58
أَيْ فُتَاتًا . وَالْجَذّ الْكَسْر وَالْقَطْع ; جَذَذْت الشَّيْء كَسَرْته وَقَطَّعْته . وَالْجُذَاذ وَالْجِذَاذ مَا كُسِرَ مِنْهُ , وَالضَّمّ أَفْصَح مِنْ كَسْره . قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . الْكِسَائِيّ : وَيُقَال لِحِجَارَةِ الذَّهَب جُذَاذ ; لِأَنَّهَا تُكْسَر . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَالْأَعْمَش وَابْن مُحَيْصِن " جِذَاذًا " بِكَسْرِ الْجِيم ; أَيْ كِسَرًا وَقِطَعًا جَمْع جَذِيذ وَهُوَ الْهَشِيم , مِثْل خَفِيف وَخِفَاف وَظَرِيف وَظِرَاف . قَالَ الشَّاعِر : مَالِك الْهُذَلِيّ جَذَّذَ الْأَصْنَام فِي مِحْرَابهَا ذَاكَ فِي اللَّه الْعَلِيّ الْمُقْتَدِر الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ ; وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم . [ مِثْل ] الْحُطَام وَالرُّفَات الْوَاحِدَة جُذَاذَة . وَهَذَا هُوَ الْكَيْد الَّذِي أَقْسَمَ بِهِ لَيَفْعَلَنَّهُ بِهَا . وَقَالَ : " فَجَعَلَهُمْ " ; لِأَنَّ الْقَوْم اِعْتَقَدُوا فِي أَصْنَامهمْ الْإِلَهِيَّة . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو نَهِيك وَأَبُو السَّمَّال " جَذَاذًا " بِفَتْحِ الْجِيم ; وَالْفَتْح وَالْكَسْر لُغَتَانِ كَالْحَصَادِ وَالْحِصَاد . أَبُو حَاتِم : الْفَتْح وَالْكَسْر وَالضَّمّ بِمَعْنًى ; حَكَاهُ قُطْرُب


أَيْ عَظِيم الْآلِهَة فِي الْخَلْق فَإِنَّهُ لَمْ يُكَسِّرهُ . وَقَالَ السُّدِّيّ وَمُجَاهِد : تَرَكَ الصَّنَم الْأَكْبَر وَعَلَّقَ الْفَأْس الَّذِي كَسَّرَ بِهِ الْأَصْنَام فِي عُنُقه ; لِيَحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ .


" لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ " أَيْ إِلَى إِبْرَاهِيم وَدِينه " يَرْجِعُونَ " إِذَا قَامَتْ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : " لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ " أَيْ إِلَى الصَّنَم الْأَكْبَر " يَرْجِعُونَ " فِي تَكْسِيرهَا .
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 59
الْمَعْنَى لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدهمْ وَرَأَوْا مَا أُحْدِثَ بِآلِهَتِهِمْ , قَالُوا عَلَى جِهَة الْبَحْث وَالْإِنْكَار : " مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ " . وَقِيلَ : " مَنْ " لَيْسَ اِسْتِفْهَامًا , بَلْ هُوَ اِبْتِدَاء وَخَبَره " لَمِنْ الظَّالِمِينَ " أَيْ فَاعِل هَذَا ظَالِم . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِقَوْلِهِ
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُسورة الأنبياء الآية رقم 60
وَهَذَا هُوَ جَوَاب " مَنْ فَعَلَ هَذَا " . وَالضَّمِير فِي " قَالُوا " لِلْقَوْمِ الضُّعَفَاء الَّذِينَ سَمِعُوا إِبْرَاهِيم , أَوْ الْوَاحِد عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَمَعْنَى " يَذْكُرهُمْ " يَعِيبهُمْ وَيَسُبّهُمْ فَلَعَلَّهُ الَّذِي صَنَعَ هَذَا . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي وَجْه رَفْع إِبْرَاهِيم ; فَقَالَ الزَّجَّاج يَرْتَفِع عَلَى مَعْنَى يُقَال لَهُ هُوَ إِبْرَاهِيم ; فَيَكُون [ خَبَر مُبْتَدَإٍ ] مَحْذُوف , وَالْجُمْلَة مَحْكِيَّة . قَالَ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون رَفْعًا عَلَى النِّدَاء وَضَمّه بِنَاء , وَقَامَ لَهُ مَقَام مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَقِيلَ : رَفْعه عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; عَلَى أَنْ يُجْعَل إِبْرَاهِيم غَيْر دَالّ عَلَى الشَّخْص , بَلْ يُجْعَل النُّطْق بِهِ دَالًّا عَلَى بِنَاء هَذِهِ اللَّفْظَة . أَيْ يُقَال لَهُ هَذَا الْقَوْل وَهَذَا اللَّفْظ , كَمَا تَقُول زَيْد وَزْن , فَعْل , أَوْ زَيْد ثَلَاثَة أَحْرُف , فَلَمْ تَدُلّ بِوَجْهِ الشَّخْص , بَلْ دَلَّلْت بِنُطْقِك عَلَى نَفْس اللَّفْظَة . وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَة تَقُول : قُلْت إِبْرَاهِيم , وَيَكُون مَفْعُولًا صَحِيحًا نَزَّلْته مَنْزِلَة قَوْل وَكَلَام ; فَلَا يَتَعَذَّر بَعْد ذَلِكَ أَنْ يُبْنَى الْفِعْل فِيهِ لِلْمَفْعُولِ . هَذَا اِخْتِيَار اِبْن عَطِيَّة فِي رَفْعه . وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْحَجَّاج الْأَشْبِيلِيّ الْأَعْلَم : هُوَ رُفِعَ عَلَى الْإِهْمَال . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لَمَّا رَأَى وُجُوه الرَّفْع كَأَنَّهَا لَا تُوَضِّح الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ , ذَهَبَ إِلَى رَفْعه بِغَيْرِ شَيْء , كَمَا قَدْ يُرْفَع التَّجَرُّد وَالْعُرُوّ عَنْ الْعَوَامِل الِابْتِدَاء . وَالْفَتَى الشَّابّ وَالْفَتَاة الشَّابَّة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا أَرْسَلَ اللَّه نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا . ثُمَّ قَرَأَ : " سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرهُمْ " .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4