هَذِهِ السُّورَة أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن فِي قَوْل مُعْظَم الْمُفَسِّرِينَ . نَزَلَ بِهَا جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِم عَلَى حِرَاء , فَعَلَّمَهُ خَمْس آيَات مِنْ هَذِهِ السُّورَة . وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " [ الْمُدَّثِّر : 1 ] , قَالَهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه ; وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : فَاتِحَة الْكِتَاب أَوَّل مَا نَزَلَ ; قَالَهُ أَبُو مَيْسَرَة الْهَمْدَانِيّ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " [ الْأَنْعَام : 151 ] وَالصَّحِيح الْأَوَّل . قَالَتْ عَائِشَة : أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة ; فَجَاءَهُ الْمَلَك فَقَالَ : " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ عَلَق اِقْرَأْ وَرَبّك الْأَكْرَم " . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ : أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَة فِي النَّوْم ; فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْل فَلَق الصُّبْح , ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاء , فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاء , يَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعَدَد , قَبْل أَنْ يَرْجِع إِلَى أَهْله وَيَتَزَوَّد لِذَلِكَ ; ثُمَّ يَرْجِع إِلَى خَدِيجَة فَيَتَزَوَّد لِمِثْلِهَا ; حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقّ وَهُوَ فِي غَار حِرَاء , فَجَاءَهُ الْمَلَك , فَقَالَ : [ اِقْرَأْ ] : فَقَالَ : ( مَا أَنَا بِقَارِئٍ - قَالَ - فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي , حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد , ثُمَّ أَرْسَلَنِي ) فَقَالَ : [ اِقْرَأْ ] فَقُلْت : [ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَة حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد , ثُمَّ أَرْسَلَنِي , فَقَالَ : " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ عَلَق اِقْرَأْ وَرَبّك الْأَكْرَم . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا لَمْ يَعْلَم ] الْحَدِيث بِكَامِلِهِ . وَقَالَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ : وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَطُوف عَلَيْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِد " مَسْجِد الْبَصْرَة " فَيُقْعِدنَا حِلَقًا , فَيُقْرِئنَا الْقُرْآن ; فَكَأَنِّي أَنْظُر إِلَيْهِ بَيْن ثَوْبَيْنِ لَهُ أَبْيَضَيْنِ , وَعَنْهُ أَخَذْت هَذِهِ السُّورَة : " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " . وَكَانَتْ أَوَّل سُورَة أَنْزَلَهَا اللَّه عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا أَوَّل سُورَة أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ بَعْدهَا " ن وَالْقَلَم " , ثُمَّ بَعْدهَا " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " ثُمَّ بَعْدهَا " وَالضُّحَى " ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَعَنْ الزُّهْرِيّ : أَوَّل مَا نَزَلَ سُورَة : " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك - إِلَى قَوْله - مَا لَمْ يَعْلَم " , فَحَزِنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَجَعَلَ يَعْلُو شَوَاهِق الْجِبَال , فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ : [ إِنَّك نَبِيّ اللَّه ] فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَة وَقَالَ : [ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاء بَارِدًا ] فَنَزَلَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " [ الْمُدَّثِّر : 1 ] . وَمَعْنَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اِقْرَأْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ الْقُرْآن مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبّك , وَهُوَ أَنْ تَذْكُر التَّسْمِيَة فِي اِبْتِدَاء كُلّ سُورَة . فَمَحَلّ الْبَاء مِنْ " بِاسْمِ رَبّك " النَّصْب عَلَى الْحَال . وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى عَلَى , أَيْ اِقْرَأْ عَلَى اِسْم رَبّك . يُقَال : فَعَلَ كَذَا بِاسْمِ اللَّه , وَعَلَى اِسْم اللَّه . وَعَلَى هَذَا فَالْمَقْرُوء مَحْذُوف , أَيْ اِقْرَأْ الْقُرْآن , وَافْتَتِحْهُ بِاسْمِ اللَّه . وَقَالَ قَوْم : اِسْم رَبّك هُوَ الْقُرْآن , فَهُوَ يَقُول : " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اِسْم رَبّك , وَالْبَاء زَائِدَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى " تَنْبُت بِالدُّهْنِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 20 ] , وَكَمَا قَالَ : سُود الْمَحَاجِر لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَرَادَ : لَا يَقْرَأْنَ السُّوَر . وَقِيلَ : مَعْنَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اُذْكُرْ اِسْمه . أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَدِئ الْقِرَاءَة بِاسْمِ اللَّه .
" خَلَقَ الْإِنْسَان " يَعْنِي اِبْن آدَم .
أَيْ مِنْ دَم ; جَمْع عَلَقَة , وَالْعَلَقَة الدَّم الْجَامِد ; وَإِذَا جَرَى فَهُوَ الْمَسْفُوح . وَقَالَ : " مِنْ عَلَق " فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْع ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْجَمْع , وَكُلّهمْ خُلِقُوا مِنْ عَلَق بَعْد النُّطْفَة . وَالْعَلَقَة : قِطْعَة مِنْ دَم رَطْب , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْلَق لِرُطُوبَتِهَا بِمَا تَمُرّ عَلَيْهِ , فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ تَكُنْ عَلَقَة . قَالَ الشَّاعِر : تَرَكْنَاهُ يَخِرّ عَلَى يَدَيْهِ يَمُجّ عَلَيْهِمَا عَلَق الْوَتِين وَخَصَّ الْإِنْسَان بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ . وَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّن قَدْر نِعْمَته عَلَيْهِ , بِأَنْ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقَة مَهِينَة , حَتَّى صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا , وَعَاقِلًا مُمَيِّزًا .
أَيْ مِنْ دَم ; جَمْع عَلَقَة , وَالْعَلَقَة الدَّم الْجَامِد ; وَإِذَا جَرَى فَهُوَ الْمَسْفُوح . وَقَالَ : " مِنْ عَلَق " فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْع ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْجَمْع , وَكُلّهمْ خُلِقُوا مِنْ عَلَق بَعْد النُّطْفَة . وَالْعَلَقَة : قِطْعَة مِنْ دَم رَطْب , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْلَق لِرُطُوبَتِهَا بِمَا تَمُرّ عَلَيْهِ , فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ تَكُنْ عَلَقَة . قَالَ الشَّاعِر : تَرَكْنَاهُ يَخِرّ عَلَى يَدَيْهِ يَمُجّ عَلَيْهِمَا عَلَق الْوَتِين وَخَصَّ الْإِنْسَان بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ . وَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّن قَدْر نِعْمَته عَلَيْهِ , بِأَنْ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقَة مَهِينَة , حَتَّى صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا , وَعَاقِلًا مُمَيِّزًا .
قَوْله تَعَالَى : " اِقْرَأْ " تَأْكِيد , وَتَمَّ الْكَلَام , ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : " وَرَبّك الْأَكْرَم " أَيْ الْكَرِيم . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَعْنِي الْحَلِيم عَنْ جَهْل الْعِبَاد , فَلَمْ يُعَجِّل بِعُقُوبَتِهِمْ . وَالْأَوَّل أَشْبَه بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِعَمه , دَلَّ بِهَا عَلَى كَرَمه . وَقِيلَ : " اِقْرَأْ وَرَبّك " أَيْ اِقْرَأْ يَا مُحَمَّد وَرَبّك يُعِينك وَيُفْهِمك , وَإِنْ كُنْت غَيْر الْقَارِئ . وَ " الْأَكْرَم " بِمَعْنَى الْمُتَجَاوِز عَنْ جَهْل الْعِبَاد .
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ " يَعْنِي الْخَطّ وَالْكِتَابَة ; أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَان الْخَطّ بِالْقَلَمِ . وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : الْقَلَم نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى عَظِيمَة , لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِين , وَلَمْ يَصْلُح عَيْش . فَدَلَّ عَلَى كَمَال كَرَمه سُبْحَانه , بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَاده مَا لَمْ يَعْلَمُوا , وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَة الْجَهْل إِلَى نُور الْعِلْم , وَنَبَّهَ عَلَى فَضْل عِلْم الْكِتَابَة , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِع الْعَظِيمَة , الَّتِي لَا يُحِيط بِهَا إِلَّا هُوَ . وَمَا دُوِّنَتْ الْعُلُوم , وَلَا قُيِّدَتْ الْحِكَم , وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَار الْأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتهمْ , وَلَا كَتَبَ اللَّه الْمَنْزِلَة إِلَّا بِالْكِتَابَةِ ; وَلَوْلَا هِيَ مَا اِسْتَقَامَتْ أُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا . وَسُمِّيَ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَم ; أَيْ يُقْطَع , وَمِنْهُ تَقْلِيم الظُّفْرِ . وَقَالَ بَعْض الشُّعَرَاء الْمُحْدَثِينَ يَصِف الْقَلَم : فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْر يَخْضِب رَأْسه شَيْخ لِوَصْلِ خَرِيدَة يَتَصَنَّع لِمَ لَا أُلَاحِظهُ بِعَيْن جَلَالَة وَبِهِ إِلَى اللَّه الصَّحَائِف تُرْفَع وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَع مِنْك مِنْ الْحَدِيث ؟ قَالَ : [ نَعَمْ فَاكْتُبْ , فَإِنَّ اللَّه عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ] . وَرَوَى مُجَاهِد عَنْ أَبِي عُمَر قَالَ : خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَة أَشْيَاء بِيَدِهِ , ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الْحَيَوَان : كُنْ فَكَانَ : الْقَلَم , وَالْعَرْش , وَجَنَّة عَدْن , وَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَفِيمَنْ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ ثَلَاثَة أَقَاوِيل : أَحَدهَا : أَنَّهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ كَتَبَ , قَالَهُ كَعْب الْأَحْبَار . الثَّانِي : أَنَّهُ إِدْرِيس , وَهُوَ أَوَّل مَنْ كَتَبَ . قَالَهُ الضَّحَّاك . الثَّالِث : أَنَّهُ أَدْخَلَ كُلّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِّمَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّه سُبْحَانه , وَجَمَعَ بِذَلِكَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي خَلْقه , وَبَيَّنَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمه ; اِسْتِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ .
الثَّانِيَة : صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : ( لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْخَلْق كَتَبَ فِي كِتَابه - فَهُوَ عِنْده فَوْق الْعَرْش : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي ) . وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه : الْقَلَم , فَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ , فَكَتَبَ مَا يَكُون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , فَهُوَ عِنْده فِي الذِّكْر فَوْق عَرْشه ) . وَفِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة , بَعَثَ اللَّه إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا , وَخَلَقَ سَمْعهَا وَبَصَرهَا وَجِلْدهَا وَلَحْمهَا وَعَظْمهَا , ثُمَّ يَقُول , يَا رَبّ , أَذَكَر أَمْ أُنْثَى ؟ فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ وَيَكْتُب الْمَلَك ثُمَّ يَقُول : يَا رَبّ أَجَله , فَيَقُول رَبّك مَا شَاءَ , وَيَكْتُب الْمَلَك , ثُمَّ يَقُول يَا رَبّ رِزْقه , فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ , وَيَكْتُب الْمَلَك , ثُمَّ يَخْرُج الْمَلَك بِالصَّحِيفَةِ فِي يَده , فَلَا يَزِيد عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُص , وَقَالَ تَعَالَى : " إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ " ( الِانْفِطَار : 10 ) .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَالْأَقْلَام فِي الْأَصْل ثَلَاثَة : الْقَلَم الْأَوَّل : الَّذِي خَلَقَهُ اللَّه بِيَدِهِ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُب . وَالْقَلَم الثَّانِي : أَقْلَام الْمَلَائِكَة , جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا الْمَقَادِير وَالْكَوَائِن وَالْأَعْمَال . وَالْقَلَم الثَّالِث : أَقْلَام النَّاس , جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ , يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامهمْ , وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبهمْ . وَفِي الْكِتَابَة فَضَائِل جَمَّة . وَالْكِتَابَة مِنْ جُمْلَة الْبَيَان , وَالْبَيَان مِمَّا اِخْتَصَّ بِهِ الْآدَمِيّ .
الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْعَرَب أَقَلّ الْخَلْق مَعْرِفَة بِالْكِتَابِ , وَأَقَلّ الْعَرَب مَعْرِفَة بِهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; صُرِفَ عَنْ عِلْمه ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَت لِمُعْجِزَتِهِ , وَأَقْوَى فِي حُجَّته , وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْعَنْكَبُوت " . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ الزُّبَيْر بْن عَبْد السَّلَام , عَنْ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّه الْفِهْرِيّ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف , وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة ] . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرَّجُل ; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا تَسَتُّر . وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَا يَمْلِكْنَ أَنْفُسهنَّ حَتَّى يُشْرِفْنَ عَلَى الرَّجُل ; فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء ; فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُنَّ غُرَفًا ذَرِيعَة إِلَى الْفِتْنَة . وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ خَيْر لَهُنَّ مِنْ أَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَال , وَلَا يَرَيْنَ الرِّجَال ] . وَذَلِكَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُل , فَنَهْمَتهَا فِي الرَّجُل , وَالرَّجُل خُلِقَتْ فِيهِ الشَّهْوَة , وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ , فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحِبه . وَكَذَلِكَ تَعْلِيم الْكِتَابَة رُبَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ , وَذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ الْكِتَابَة كَتَبَتْ إِلَى مَنْ تَهْوَى . وَالْكِتَابَة عَيْن مِنْ الْعُيُون , بِهَا يُبْصِر الشَّاهِد الْغَائِب , وَالْخَطّ هُوَ آثَار يَده . وَفِي ذَلِكَ تَعْبِير عَنْ الضَّمِير بِمَا لَا يَنْطَلِق بِهِ اللِّسَان , فَهُوَ أَبْلَغ مِنْ اللِّسَان . فَأَحَبَّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْقَطِع عَنْهُنَّ أَسْبَاب الْفِتْنَة ; تَحْصِينًا لَهُنَّ , وَطَهَارَة لِقُلُوبِهِنَّ .
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ " يَعْنِي الْخَطّ وَالْكِتَابَة ; أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَان الْخَطّ بِالْقَلَمِ . وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : الْقَلَم نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى عَظِيمَة , لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِين , وَلَمْ يَصْلُح عَيْش . فَدَلَّ عَلَى كَمَال كَرَمه سُبْحَانه , بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَاده مَا لَمْ يَعْلَمُوا , وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَة الْجَهْل إِلَى نُور الْعِلْم , وَنَبَّهَ عَلَى فَضْل عِلْم الْكِتَابَة , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِع الْعَظِيمَة , الَّتِي لَا يُحِيط بِهَا إِلَّا هُوَ . وَمَا دُوِّنَتْ الْعُلُوم , وَلَا قُيِّدَتْ الْحِكَم , وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَار الْأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتهمْ , وَلَا كَتَبَ اللَّه الْمَنْزِلَة إِلَّا بِالْكِتَابَةِ ; وَلَوْلَا هِيَ مَا اِسْتَقَامَتْ أُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا . وَسُمِّيَ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَم ; أَيْ يُقْطَع , وَمِنْهُ تَقْلِيم الظُّفْرِ . وَقَالَ بَعْض الشُّعَرَاء الْمُحْدَثِينَ يَصِف الْقَلَم : فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْر يَخْضِب رَأْسه شَيْخ لِوَصْلِ خَرِيدَة يَتَصَنَّع لِمَ لَا أُلَاحِظهُ بِعَيْن جَلَالَة وَبِهِ إِلَى اللَّه الصَّحَائِف تُرْفَع وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَع مِنْك مِنْ الْحَدِيث ؟ قَالَ : [ نَعَمْ فَاكْتُبْ , فَإِنَّ اللَّه عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ] . وَرَوَى مُجَاهِد عَنْ أَبِي عُمَر قَالَ : خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَة أَشْيَاء بِيَدِهِ , ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الْحَيَوَان : كُنْ فَكَانَ : الْقَلَم , وَالْعَرْش , وَجَنَّة عَدْن , وَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَفِيمَنْ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ ثَلَاثَة أَقَاوِيل : أَحَدهَا : أَنَّهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ كَتَبَ , قَالَهُ كَعْب الْأَحْبَار . الثَّانِي : أَنَّهُ إِدْرِيس , وَهُوَ أَوَّل مَنْ كَتَبَ . قَالَهُ الضَّحَّاك . الثَّالِث : أَنَّهُ أَدْخَلَ كُلّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِّمَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّه سُبْحَانه , وَجَمَعَ بِذَلِكَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي خَلْقه , وَبَيَّنَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمه ; اِسْتِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ .
الثَّانِيَة : صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : ( لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْخَلْق كَتَبَ فِي كِتَابه - فَهُوَ عِنْده فَوْق الْعَرْش : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي ) . وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه : الْقَلَم , فَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ , فَكَتَبَ مَا يَكُون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , فَهُوَ عِنْده فِي الذِّكْر فَوْق عَرْشه ) . وَفِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة , بَعَثَ اللَّه إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا , وَخَلَقَ سَمْعهَا وَبَصَرهَا وَجِلْدهَا وَلَحْمهَا وَعَظْمهَا , ثُمَّ يَقُول , يَا رَبّ , أَذَكَر أَمْ أُنْثَى ؟ فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ وَيَكْتُب الْمَلَك ثُمَّ يَقُول : يَا رَبّ أَجَله , فَيَقُول رَبّك مَا شَاءَ , وَيَكْتُب الْمَلَك , ثُمَّ يَقُول يَا رَبّ رِزْقه , فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ , وَيَكْتُب الْمَلَك , ثُمَّ يَخْرُج الْمَلَك بِالصَّحِيفَةِ فِي يَده , فَلَا يَزِيد عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُص , وَقَالَ تَعَالَى : " إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ " ( الِانْفِطَار : 10 ) .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَالْأَقْلَام فِي الْأَصْل ثَلَاثَة : الْقَلَم الْأَوَّل : الَّذِي خَلَقَهُ اللَّه بِيَدِهِ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُب . وَالْقَلَم الثَّانِي : أَقْلَام الْمَلَائِكَة , جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا الْمَقَادِير وَالْكَوَائِن وَالْأَعْمَال . وَالْقَلَم الثَّالِث : أَقْلَام النَّاس , جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ , يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامهمْ , وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبهمْ . وَفِي الْكِتَابَة فَضَائِل جَمَّة . وَالْكِتَابَة مِنْ جُمْلَة الْبَيَان , وَالْبَيَان مِمَّا اِخْتَصَّ بِهِ الْآدَمِيّ .
الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْعَرَب أَقَلّ الْخَلْق مَعْرِفَة بِالْكِتَابِ , وَأَقَلّ الْعَرَب مَعْرِفَة بِهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; صُرِفَ عَنْ عِلْمه ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَت لِمُعْجِزَتِهِ , وَأَقْوَى فِي حُجَّته , وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْعَنْكَبُوت " . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ الزُّبَيْر بْن عَبْد السَّلَام , عَنْ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّه الْفِهْرِيّ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف , وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة ] . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرَّجُل ; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا تَسَتُّر . وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَا يَمْلِكْنَ أَنْفُسهنَّ حَتَّى يُشْرِفْنَ عَلَى الرَّجُل ; فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء ; فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُنَّ غُرَفًا ذَرِيعَة إِلَى الْفِتْنَة . وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ خَيْر لَهُنَّ مِنْ أَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَال , وَلَا يَرَيْنَ الرِّجَال ] . وَذَلِكَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُل , فَنَهْمَتهَا فِي الرَّجُل , وَالرَّجُل خُلِقَتْ فِيهِ الشَّهْوَة , وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ , فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحِبه . وَكَذَلِكَ تَعْلِيم الْكِتَابَة رُبَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ , وَذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ الْكِتَابَة كَتَبَتْ إِلَى مَنْ تَهْوَى . وَالْكِتَابَة عَيْن مِنْ الْعُيُون , بِهَا يُبْصِر الشَّاهِد الْغَائِب , وَالْخَطّ هُوَ آثَار يَده . وَفِي ذَلِكَ تَعْبِير عَنْ الضَّمِير بِمَا لَا يَنْطَلِق بِهِ اللِّسَان , فَهُوَ أَبْلَغ مِنْ اللِّسَان . فَأَحَبَّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْقَطِع عَنْهُنَّ أَسْبَاب الْفِتْنَة ; تَحْصِينًا لَهُنَّ , وَطَهَارَة لِقُلُوبِهِنَّ .
قِيلَ : " الْإِنْسَان " هُنَا آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . عَلَّمَهُ أَسْمَاء كُلّ شَيْء ; حَسَب مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا " . فَلَمْ يَبْقَ شَيْء إِلَّا وَعَلَّمَ سُبْحَانه آدَم اِسْمه بِكُلِّ لُغَة , وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ . وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْله , وَتَبَيَّنَ قَدْره , وَثَبَتَتْ نُبُوَّته , وَقَامَتْ حُجَّة اللَّه عَلَى الْمَلَائِكَة وَحُجَّته , وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَة الْأَمْر لِمَا رَأَتْ مِنْ شَرَف الْحَال , وَرَأَتْ مِنْ جَلَال الْقُدْرَة , وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيم الْأَمْر . ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّته خَلَفًا بَعْد سَلَف , وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْم . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقِيلَ : " الْإِنْسَان " هُنَا الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم " [ النِّسَاء : 113 ] . وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد بِ " عَلَّمَك " الْمُسْتَقْبَل ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَوَائِل مَا نَزَلَ . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا " [ النَّحْل : 78 ] .
قِيلَ : إِنَّهُ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْل . وَقِيلَ : نَزَلَتْ السُّورَة كُلّهَا فِي أَبِي جَهْل ; نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة ; فَأَمَرَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد وَيَقْرَأ بِاسْمِ الرَّبّ . وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ السُّورَة مِنْ أَوَائِل مَا نَزَلَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَمْس آيَات مِنْ أَوَّلهَا أَوَّل مَا نَزَلَتْ , ثُمَّ نَزَلَتْ الْبَقِيَّة فِي شَأْن أَبِي جَهْل , وَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِّ ذَلِكَ إِلَى أَوَّل السُّورَة ; لِأَنَّ تَأْلِيف السُّوَر جَرَى بِأَمْرٍ مِنْ اللَّه . أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " [ الْبَقَرَة : 281 ] آخِر مَا نَزَلَ , ثُمَّ هُوَ مَضْمُوم إِلَى مَا نَزَلَ قَبْله بِزَمَانٍ طَوِيل . وَ " كَلَّا " بِمَعْنَى حَقًّا ; إِذْ لَيْسَ قَبْله شَيْء . وَالْإِنْسَان هُنَا أَبُو جَهْل . وَالطُّغْيَان : مُجَاوَزَة الْحَدّ فِي الْعِصْيَان .
" أَنْ رَآهُ " أَيْ لِأَنْ رَأَى نَفْسه اِسْتَغْنَى ; أَيْ صَارَ ذَا مَال وَثَرْوَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ , قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَسَمِعَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ , أَتَاهُ أَبُو جَهْل فَقَالَ : يَا مُحَمَّد تَزْعُم أَنَّهُ مَنْ اِسْتَغْنَى طَغَى ; فَاجْعَلْ لَنَا جِبَال مَكَّة ذَهَبًا , لَعَلَّنَا نَأْخُذ مِنْهَا , فَنَطْغَى فَنَدَع دِيننَا وَنَتَّبِع دِينك . قَالَ فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : ( يَا مُحَمَّد خَيِّرْهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنْ شَاءُوا فَعَلْنَا بِهِمْ مَا أَرَادُوهُ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْمَائِدَة ) . فَعَلِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَوْم لَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ ; فَكَفَّ عَنْهُمْ إِبْقَاء عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : " أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنَى " بِالْعَشِيرَةِ وَالْأَنْصَار وَالْأَعْوَان . وَحَذَفَ اللَّام مِنْ قَوْله " أَنْ رَآهُ " كَمَا يُقَال : إِنَّكُمْ لَتَطْغَوْنَ إِنْ رَأَيْتُمْ غِنَاكُمْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : لَمْ يَقُلْ رَأَى نَفْسه , كَمَا قِيلَ قَتَلَ نَفْسه ; لِأَنَّ رَأَى مِنْ الْأَفْعَال الَّتِي تُرِيد اِسْمًا وَخَبَرًا , نَحْو الظَّنّ وَالْحِسْبَان , فَلَا يُقْتَصَر فِيهِ عَلَى مَفْعُول وَاحِد . وَالْعَرَب تَطْرَح النَّفْس مِنْ هَذَا الْجِنْس تَقُول : رَأَيْتنِي وَحَسِبْتنِي , وَمَتَى تَرَاك خَارِجًا , وَمَتَى تَظُنّك خَارِجًا . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد وَقُنْبُل عَنْ اِبْن كَثِير " أَنْ رَأَهُ اِسْتَغْنَى " بِقَصْرِ الْهَمْزَة . الْبَاقُونَ " رَآهُ " بِمَدِّهَا , وَهُوَ الِاخْتِيَار .
أَيْ مَرْجِع مَنْ هَذَا وَصْفه , فَنُجَازِيه . وَالرُّجْعَى وَالْمَرْجِع وَالرُّجُوع : مَصَادِر ; يُقَال : رَجَعَ إِلَيْهِ رُجُوعًا وَمَرْجِعًا وَرُجْعَى عَلَى وَزْن فُعْلَى .
وَهُوَ أَبُو جَهْل
وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ أَبَا جَهْل قَالَ : إِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه ; قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَة . فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَات تَعَجُّبًا مِنْهُ . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف ; وَالْمَعْنَى : أَمِنَ هَذَا النَّاهِي عَنْ الصَّلَاة مِنْ الْعُقُوبَة .
أَيْ أَرَأَيْت يَا أَبَا جَهْل إِنْ كَانَ مُحَمَّد عَلَى هَذِهِ الصِّفَة , أَلَيْسَ نَاهِيه عَنْ التَّقْوَى وَالصَّلَاة هَالِكًا ؟
أَيْ أَرَأَيْت يَا أَبَا جَهْل إِنْ كَانَ مُحَمَّد عَلَى هَذِهِ الصِّفَة , أَلَيْسَ نَاهِيه عَنْ التَّقْوَى وَالصَّلَاة هَالِكًا ؟
يَعْنِي أَبَا جَهْل كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَعْرَضَ عَنْ الْإِيمَان . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى " أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى " وَهُوَ عَلَى الْهُدَى , وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى , وَالنَّاهِي مُكَذِّب مُتَوَلٍّ عَنْ الذِّكْر ; أَيْ فَمَا أَعْجَب هَذَا
ثُمَّ يَقُول : وَيْله أَلَمْ يَعْلَم أَبُو جَهْل بِأَنَّ اللَّه يَرَى ; أَيْ يَرَاهُ وَيَعْلَم فِعْله ; فَهُوَ تَقْرِير وَتَوْبِيخ . وَقِيلَ : كُلّ وَاحِد مِنْ " أَرَأَيْت " بَدَل مِنْ الْأَوَّل . وَ " أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّه يَرَى " الْخَبَر .
أَيْ أَبُو جَهْل عَنْ أَذَاك يَا مُحَمَّد .
" لَنَسْفَعًا " أَيْ لَنَأْخُذَنَّ " بِالنَّاصِيَةِ " فَلَنُذِلَّنَّهُ . وَقِيلَ : لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ يَوْم الْقِيَامَة , وَتُطْوَى مَعَ قَدَمَيْهِ , وَيُطْرَح فِي النَّار , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَيُؤْخَذ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَام " [ الرَّحْمَن : 41 ] . فَالْآيَة - وَإِنْ كَانَتْ فِي أَبِي جَهْل - فَهِيَ عِظَة لِلنَّاسِ , وَتَهْدِيد لِمَنْ يَمْتَنِع أَوْ يَمْنَع غَيْره عَنْ الطَّاعَة . وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : سَفَعْت بِالشَّيْءِ : إِذَا قَبَضْت عَلَيْهِ وَجَذَبْته جَذْبًا شَدِيدًا . وَيُقَال : سَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسه . قَالَ : قَوْم إِذَا كَثُرَ الصِّيَاح رَأَيْتهمْ مِنْ بَيْن مُلْجِم مُهْره أَوْ سَافِع وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ سَفَعَتْهُ النَّار وَالشَّمْس : إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهه إِلَى حَال تَسْوِيد ; كَمَا قَالَ : أَثَافِيّ سُفْعًا فِي مُعَرَّس مِرْجَل وَنُؤْي كَجِذْمِ الْحَوْض أَثْلَم خَاشِع وَالنَّاصِيَة : شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس . وَقَدْ يُعَبَّر بِهَا عَنْ جُمْلَة الْإِنْسَان ; كَمَا يُقَال : هَذِهِ نَاصِيَة مُبَارَكَة ; إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْإِنْسَان . وَخَصَّ النَّاصِيَة بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَة الْعَرَب فِيمَنْ أَرَادُوا إِذْلَاله وَإِهَانَته أَخَذُوا بِنَاصِيَتِهِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : السَّفْع : الْجَذْب بِشِدَّةٍ ; أَيْ لَنَجُرَّنَّ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى النَّار . وَقِيلَ : السَّفْع الضَّرْب ; أَيْ لَنَلْطِمَنَّ وَجْهه . وَكُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى . أَيْ يُجْمَع عَلَيْهِ الضَّرْب عِنْد الْأَخْذ ; ثُمَّ يُجَرّ إِلَى جَهَنَّم .
" لَنَسْفَعًا " أَيْ لَنَأْخُذَنَّ " بِالنَّاصِيَةِ " فَلَنُذِلَّنَّهُ . وَقِيلَ : لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ يَوْم الْقِيَامَة , وَتُطْوَى مَعَ قَدَمَيْهِ , وَيُطْرَح فِي النَّار , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَيُؤْخَذ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَام " [ الرَّحْمَن : 41 ] . فَالْآيَة - وَإِنْ كَانَتْ فِي أَبِي جَهْل - فَهِيَ عِظَة لِلنَّاسِ , وَتَهْدِيد لِمَنْ يَمْتَنِع أَوْ يَمْنَع غَيْره عَنْ الطَّاعَة . وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : سَفَعْت بِالشَّيْءِ : إِذَا قَبَضْت عَلَيْهِ وَجَذَبْته جَذْبًا شَدِيدًا . وَيُقَال : سَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسه . قَالَ : قَوْم إِذَا كَثُرَ الصِّيَاح رَأَيْتهمْ مِنْ بَيْن مُلْجِم مُهْره أَوْ سَافِع وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ سَفَعَتْهُ النَّار وَالشَّمْس : إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهه إِلَى حَال تَسْوِيد ; كَمَا قَالَ : أَثَافِيّ سُفْعًا فِي مُعَرَّس مِرْجَل وَنُؤْي كَجِذْمِ الْحَوْض أَثْلَم خَاشِع وَالنَّاصِيَة : شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس . وَقَدْ يُعَبَّر بِهَا عَنْ جُمْلَة الْإِنْسَان ; كَمَا يُقَال : هَذِهِ نَاصِيَة مُبَارَكَة ; إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْإِنْسَان . وَخَصَّ النَّاصِيَة بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَة الْعَرَب فِيمَنْ أَرَادُوا إِذْلَاله وَإِهَانَته أَخَذُوا بِنَاصِيَتِهِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : السَّفْع : الْجَذْب بِشِدَّةٍ ; أَيْ لَنَجُرَّنَّ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى النَّار . وَقِيلَ : السَّفْع الضَّرْب ; أَيْ لَنَلْطِمَنَّ وَجْهه . وَكُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى . أَيْ يُجْمَع عَلَيْهِ الضَّرْب عِنْد الْأَخْذ ; ثُمَّ يُجَرّ إِلَى جَهَنَّم .
ثُمَّ قَالَ عَلَى الْبَدَل : " نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطِئَة " أَيْ نَاصِيَة أَبِي جَهْل كَاذِبَة فِي قَوْلهَا , خَاطِئَة فِي فِعْلهَا . وَالْخَاطِئ مُعَاقَب مَأْخُوذ . وَالْمُخْطِئ غَيْر مَأْخُوذ . وَوَصْف النَّاصِيَة بِالْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَة كَوَصْفِ الْوُجُوه بِالنَّظَرِ فِي قَوْله تَعَالَى : " إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة " [ الْقِيَامَة : 23 ] . وَقِيلَ : أَيْ صَاحِبهَا كَاذِب خَاطِئ ; كَمَا يُقَال : نَهَاره صَائِم , وَلَيْله قَائِم ; أَيْ هُوَ صَائِم فِي نَهَاره , ثُمَّ قَائِم فِي لَيْله .
أَيْ أَهْل مَجْلِسه وَعَشِيرَته , فَلْيَسْتَنْصِرْ بِهِمْ .
أَيْ الْمَلَائِكَة الْغِلَاط الشِّدَاد - عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره - وَاحِدهمْ زِبْنِيّ ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْأَخْفَش : زَابِن . أَبُو عُبَيْدَة : زِبْنِيَة . وَقِيلَ : زَبَانِيّ . وَقِيلَ : هُوَ اِسْم لِلْجَمْعِ ; كَالْأَبَابِيلِ وَالْعَبَادِيد . وَقَالَ قَتَادَة : هُمْ الشُّرَّط فِي كَلَام الْعَرَب . وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الزَّبْن وَهُوَ الدَّفْع ; وَمِنْهُ الْمُزَابَنَة فِي الْبَيْع . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمُّوا الزَّبَانِيَة لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِأَرْجُلِهِمْ , كَمَا يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ ; حَكَاهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - قَالَ : وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ السُّورَة , وَبَلَغَ إِلَى قَوْله تَعَالَى : " لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ " قَالَ أَبُو جَهْل : أَنَا أَدْعُو قَوْمِي حَتَّى يَمْنَعُوا عَنِّي رَبّك . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَلْيَدْعُ نَادِيه , سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة " . فَلَمَّا سَمِعَ ذِكْر الزَّبَانِيَة رَجَعَ فَزِعًا ; فَقِيلَ لَهُ : خَشِيت مِنْهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ رَأَيْت عِنْده فَارِسًا يُهَدِّدنِي بِالزَّبَانِيَةِ . فَمَا أَدْرِي مَا الزَّبَانِيَة , وَمَالَ إِلَيَّ الْفَارِس , فَخَشِيت مِنْهُ أَنْ يَأْكُلنِي . وَفِي الْأَخْبَار أَنَّ الزَّبَانِيَة رُءُوسهمْ فِي السَّمَاء وَأَرْجُلهمْ فِي الْأَرْض , فَهُمْ يَدْفَعُونَ الْكُفَّار فِي جَهَنَّم وَقِيلَ : إِنَّهُمْ أَعْظَم الْمَلَائِكَة خَلْقًا , وَأَشَدّهمْ بَطْشًا . وَالْعَرَب تُطْلِق هَذَا الِاسْم عَلَى مَنْ اِشْتَدَّ بَطْشه . قَالَ الشَّاعِر : مَطَاعِيم فِي الْقُصْوَى مَطَاعِين فِي الْوَغَى زَبَانِيَة غُلْب عِطَام حُلُومهَا وَعَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : " سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة " قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْل : لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَة عِيَانًا ] . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب . وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَرَّ أَبُو جَهْل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْد الْمَقَام , فَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ أَبُو جَهْل : بِأَيِّ شَيْء تُهَدِّدنِي يَا مُحَمَّد , وَاَللَّه إِنِّي لَأَكْثَر أَهْل الْوَادِي هَذَا نَادِيًا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَلْيَدْعُ نَادِيه . سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة " . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَاَللَّه لَوْ دَعَا نَادِيه لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَة الْعَذَاب مِنْ سَاعَته . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ , وَقَالَ : حَسَن غَرِيب صَحِيح . وَالنَّادِي فِي كَلَام الْعَرَب : الْمَجْلِس الَّذِي يَنْتَدِي فِيهِ الْقَوْم ; أَيْ يَجْتَمِعُونَ , وَالْمُرَاد أَهْل النَّادِي ; كَمَا قَالَ جَرِير : لَهُمْ مَجْلِس صُهْب السِّبَال أَذِلَّة وَقَالَ زُهَيْر : وَفِيهِمْ مَقَامَات حِسَان وُجُوههمْ وَقَالَ آخَر : وَاسْتُبَّ بَعْدك يَا كُلَيْب الْمَجْلِس وَقَدْ نَادَيْت الرَّجُل أُنَادِيه إِذَا جَالَسْته . قَالَ زُهَيْر : وَجَار الْبَيْت وَالرَّجُل الْمُنَادِي أَمَام الْحَيّ عَقْدهمَا سَوَاء
أَيْ لَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا يَظُنّهُ أَبُو جَهْل .
أَيْ فِيمَا دَعَاك إِلَيْهِ مِنْ تَرْك الصَّلَاة .
أَيْ صَلِّ لِلَّهِ " وَاقْتَرِبْ " أَيْ تَقَرَّبْ إِلَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى : إِذَا سَجَدْت فَاقْتَرِبْ مِنْ اللَّه بِالدُّعَاءِ . رَوَى عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ أَقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه , وَأَحَبّه إِلَيْهِ , جَبْهَته فِي الْأَرْض سَاجِدًا لِلَّهِ ] .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا نِهَايَة الْعُبُودِيَّة وَالذِّلَّة ; وَلِلَّهِ غَايَة الْعِزَّة , وَلَهُ الْعِزَّة الَّتِي لَا مِقْدَار لَهَا ; فَكُلَّمَا بَعُدْت مِنْ صِفَته , قَرُبْت مِنْ جَنَّته , وَدَنَوْت مِنْ جِوَاره فِي دَاره . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ أَمَّا الرُّكُوع فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبّ . وَأَمَّا السُّجُود فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاء , فَإِنَّهُ قَمِن أَنْ يُسْتَجَاب لَكُمْ ] . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : وَإِذَا تَذَلَّلَتْ الرِّقَاب تَوَاضُعًا مِنَّا إِلَيْك فَعِزّهَا فِي ذُلّهَا وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : اُسْجُدْ أَنْتَ يَا مُحَمَّد مُصَلِّيًا , وَاقْتَرِبْ أَنْتَ يَا أَبَا جَهْل مِنْ النَّار .
وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْجُدْ " هَذَا مِنْ السُّجُود . يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى السُّجُود فِي الصَّلَاة , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُجُود التِّلَاوَة فِي هَذِهِ السُّورَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَالظَّاهِر أَنَّهُ سُجُود الصَّلَاة " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى - إِلَى قَوْله - كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " , لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ رِوَايَة مُسْلِم وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ : سَجَدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ " [ الِانْشِقَاق : 1 ] , وَفِي " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : 1 ] سَجْدَتَيْنِ , فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد سُجُود التِّلَاوَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن وَهْب , عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد , عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة , عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَ : عَزَائِم السُّجُود أَرْبَع : " ألم " وَ " حم تَنْزِيل مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَ " النَّجْم " وَ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَلْزَم عَلَيْهِ السُّجُود الثَّانِي مِنْ سُورَة " الْحَجّ " , وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ ; لِأَنَّهُ يَكُون مَعْنَاهُ اِرْكَعُوا فِي مَوْضِع الرُّكُوع , وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِع السُّجُود . وَقَدْ قَالَ اِبْن نَافِع وَمُطَرِّف : وَكَانَ مَالِك يَسْجُد فِي خَاصَّة نَفْسه بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَة مِنْ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " وَابْن وَهْب يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِم .
قُلْت : وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ حَدِيث مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : 1 ] قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : [ اُكْتُبْهَا يَا مُعَاذ ] فَأَخَذَ مُعَاذ اللَّوْح وَالْقَلَم وَالنُّون - وَهِيَ الدَّوَاة - فَكَتَبَهَا مُعَاذ ; فَلَمَّا بَلَغَ " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " سَجَدَ اللَّوْح , وَسَجَدَ الْقَلَم , وَسَجَدَتْ النُّون , وَهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ اِرْفَعْ بِهِ ذِكْرًا , اللَّهُمَّ اُحْطُطْ بِهِ وِزْرًا , اللَّهُمَّ اِغْفِرْ بِهِ ذَنْبًا . قَالَ مُعَاذ : سَجَدْت , وَأَخْبَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَجَدَ .
خُتِمَتْ السُّورَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا فَتَحَ وَمَنَحَ وَأَعْطَى وَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة
أَيْ فِيمَا دَعَاك إِلَيْهِ مِنْ تَرْك الصَّلَاة .
أَيْ صَلِّ لِلَّهِ " وَاقْتَرِبْ " أَيْ تَقَرَّبْ إِلَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى : إِذَا سَجَدْت فَاقْتَرِبْ مِنْ اللَّه بِالدُّعَاءِ . رَوَى عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ أَقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه , وَأَحَبّه إِلَيْهِ , جَبْهَته فِي الْأَرْض سَاجِدًا لِلَّهِ ] .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا نِهَايَة الْعُبُودِيَّة وَالذِّلَّة ; وَلِلَّهِ غَايَة الْعِزَّة , وَلَهُ الْعِزَّة الَّتِي لَا مِقْدَار لَهَا ; فَكُلَّمَا بَعُدْت مِنْ صِفَته , قَرُبْت مِنْ جَنَّته , وَدَنَوْت مِنْ جِوَاره فِي دَاره . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ أَمَّا الرُّكُوع فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبّ . وَأَمَّا السُّجُود فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاء , فَإِنَّهُ قَمِن أَنْ يُسْتَجَاب لَكُمْ ] . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : وَإِذَا تَذَلَّلَتْ الرِّقَاب تَوَاضُعًا مِنَّا إِلَيْك فَعِزّهَا فِي ذُلّهَا وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : اُسْجُدْ أَنْتَ يَا مُحَمَّد مُصَلِّيًا , وَاقْتَرِبْ أَنْتَ يَا أَبَا جَهْل مِنْ النَّار .
وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْجُدْ " هَذَا مِنْ السُّجُود . يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى السُّجُود فِي الصَّلَاة , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُجُود التِّلَاوَة فِي هَذِهِ السُّورَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَالظَّاهِر أَنَّهُ سُجُود الصَّلَاة " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى - إِلَى قَوْله - كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " , لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ رِوَايَة مُسْلِم وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ : سَجَدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ " [ الِانْشِقَاق : 1 ] , وَفِي " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : 1 ] سَجْدَتَيْنِ , فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد سُجُود التِّلَاوَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن وَهْب , عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد , عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة , عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَ : عَزَائِم السُّجُود أَرْبَع : " ألم " وَ " حم تَنْزِيل مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَ " النَّجْم " وَ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَلْزَم عَلَيْهِ السُّجُود الثَّانِي مِنْ سُورَة " الْحَجّ " , وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ ; لِأَنَّهُ يَكُون مَعْنَاهُ اِرْكَعُوا فِي مَوْضِع الرُّكُوع , وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِع السُّجُود . وَقَدْ قَالَ اِبْن نَافِع وَمُطَرِّف : وَكَانَ مَالِك يَسْجُد فِي خَاصَّة نَفْسه بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَة مِنْ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " وَابْن وَهْب يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِم .
قُلْت : وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ حَدِيث مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : 1 ] قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : [ اُكْتُبْهَا يَا مُعَاذ ] فَأَخَذَ مُعَاذ اللَّوْح وَالْقَلَم وَالنُّون - وَهِيَ الدَّوَاة - فَكَتَبَهَا مُعَاذ ; فَلَمَّا بَلَغَ " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " سَجَدَ اللَّوْح , وَسَجَدَ الْقَلَم , وَسَجَدَتْ النُّون , وَهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ اِرْفَعْ بِهِ ذِكْرًا , اللَّهُمَّ اُحْطُطْ بِهِ وِزْرًا , اللَّهُمَّ اِغْفِرْ بِهِ ذَنْبًا . قَالَ مُعَاذ : سَجَدْت , وَأَخْبَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَجَدَ .
خُتِمَتْ السُّورَة . وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا فَتَحَ وَمَنَحَ وَأَعْطَى وَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة